
كتب: سامي الأمين
لم تكن الضربة الإسرائيلية داخل الأراضي الإيرانية مجرد حدث عسكري عابر، بل كان لها ارتداد جيوسياسي هزّ أركان الملاحة الجوية العالمية. فقد أعلنت شركات مثل “لوفتهانزا” و”طيران سنغافورة” و”إير فرانس” تحويل رحلاتها من المجال الجوي الإيراني إلى ممرات بديلة فوق الخليج العربي، وسلطنة عُمان، والمملكة العربية السعودية. وقد التقطت “فلايت رادار 24” (Flightradar24) صورة للمشهد الجوي المضطرب.
الآن، تتحول كل دقيقة إضافية في الرحلات الجوية إلى خسائر مالية فادحة (30–90 دقيقة إضافية لكل رحلة بين آسيا وأوروبا)، ما يمكن أن يكلّف ملايين الدولارات أسبوعيًا. ومن هنا تبرز فرصة استراتيجية كامنة في المجال الجوي السوداني، المغلق منذ أبريل 2023. إنها لحظة فارقة يمكن عبرها تحويل السودان من ضحية حرب إلى لاعب رئيسي في إعادة فتح مجاله بمسارات تخدم الملاحة الجوية الدولية، بالاستناد إلى موقعه الجغرافي الفريد والشاسع.
تجنب الأجواء الإيرانية يضغط مباشرة على الطرق الجوية البديلة عبر المجال الجوي السعودي والإماراتي والعُماني واليمني. ورغم البنية التحتية المتطورة في هذه الدول، إلا أنها ليست مهيأة لاستيعاب هذا الطوفان المفاجئ من الرحلات، حيث قفز عددها من 1200–1500 رحلة يوميًا إلى 1800 رحلة، وفق تقديرات “يوروكنترول”. هذا الازدحام يتحول إلى تأخيرات متعاقبة، وحرق وقود إضافي، وإرهاق للطواقم والطائرات، وتعطيل لجدول الرحلات العالمي. وتشير التقديرات الأولية إلى أن التكلفة الإجمالية على شركات الطيران تتجاوز عشرات الملايين أسبوعيًا، وهو عبء يهدد استقرار أسعار التذاكر وكفاءة الشبكة الدولية.
مع ملاحظة مهمة: أن هذا الاحتقان ليس ظرفيًا مؤقتًا. طالما استمرت التوترات في المنطقة (وهو السيناريو الأرجح)، سيظل المجال الجوي الإيراني منطقة محفوفة بالمخاطر. وهنا، يتحول البحث عن طرق بديلة من “خيار” إلى “ضرورة استراتيجية” ملحّة للنقل الجوي الدولي.
ومن ضمن هذه البدائل، يبرز اسم السودان. إذ يمتلك السودان واحدًا من أوسع وأطول الأجواء “الصالحة للملاحة” وأقلها ازدحامًا في العالم العربي والأفريقي، بمساحة تزيد على 1.8 مليون كيلومتر مربع – مساحة قارية تتيح مرونة هائلة. وإن تم فتح مجاله، فسيتيح ممرًا جنوبيًا مباشرًا ومختصرًا نسبيًا للرحلات القادمة من جنوب وشرق آسيا والمتجهة إلى أوروبا أو شمال أفريقيا، والعكس، متجنبًا الازدحام الشمالي فوق دول الخليج.
التحدي الأكبر الآن هو اقتناص هذه الفرصة الذهبية لإعادة فتح المجال الجوي السوداني عبر خارطة طريق عملية تحوّل الإمكانية إلى واقع. ويتطلب ذلك إجراءات سريعة وحكيمة من سلطة الطيران المدني السوداني، بالتعاون الوثيق مع المنظمات الدولية (ICAO) والشركاء الإقليميين ضمن لجنة CCT. وللسودان الآن ببورتسودان كوادر مميزة قادرة تعمل على إنجاز المطلوب بكفاءة عالية، خاصة أن السلطة نجحت في فتح المجال الجوي الشرقي في ظرف بالغ التعقيد، حين كانت المليشيا تسيطر على الخرطوم والجزيرة وكسلا وسنجة، بعدما أقنعت المنظمة بقدرتها على إدارة المجال الجوي المفتوح بجدارة واستحقاق.
ومما لا شك فيه أن اقتناص هذه الفرصة بإعادة فتح المجال الجوي السوداني سيجلب عوائد ضخمة تُسهم في إعادة الإعمار، كما سيساعد في استيعاب الكوادر الفنية من مراقبين ومهندسين وفنيين ممن تشردوا أو تعطلت أعمالهم بسبب الحرب، واستعادة رأس المال البشري.
هذه الفرصة التاريخية تتطلب وضع خارطة عملية، وتسريع التواصل مع منظمة الطيران المدني الدولي عبر المكتب الإقليمي للشرق الأوسط، وتحديث تحليل أخطار السلامة والأمن عبر المجال الجوي، مدعّمين ذلك بطرد مليشيا الدعم السريع من الخرطوم ومدني وسنار وسنجة والنيل الأبيض.
وعلى الرغم من وجود الكثير من التحديات الأمنية واللوجستية والإدارية، فإن تطوير آلية تخفيف المخاطر (Risk Mitigation) الموجودة أصلًا، سيفي بالمطلوب، مع الدعم الكامل من لجنة التنسيق المدني العسكري، والتي كان من ثمارها الكبيرة جعل سماء السودان تخلو من أي حادث أو واقعة خطيرة طوال فترة الحرب السابقة.
ويبقى التحدي الأكبر هو إنشاء مركز ملاحي بديل، وهو أمر مفصلي. ويمكن تنفيذه بيسر عبر استقطاب التمويل بضمان المركز المالي للسلطة خارجيًا وداخليًا، ووجود دراسة جدوى من بيت خبرة عالمي معترف به.
إن اغتنام هذه الفرصة ضروري جدًا لقطاع الطيران وللسودان كدولة. وكما أُسلف، يملك الطيران المدني إدارة فاعلة ومؤهلة، على رأسها مراقب جوي متخصص له خبرة طويلة وممتدة، قادر على إنجاز المطلوب وقنص هذه الفرصة الكبيرة، وذلك باستلهام تجارب ونماذج دولية ملهمة لإدارة المخاطر في المجال الجوي، مثل أوكرانيا التي اعتمدت إدارة تشغيلية جزئية لمجالها الجوي رغم الصراع، مع تقسيم دقيق للمناطق، وتحديثات لنشرات الطياريين بصورة شبه يومية.