مقالات الرأى

دكتور عبد الناصر سلم يكتب : الطريق إلى الفاشر، لا إلى الشمال

د. عبد الناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس

لم يكن إعلان نائب قائد قوات الدعم السريع، الفريق عبد الرحيم دقلو، عن تحريك ألفي عربة قتالية نحو الولاية الشمالية خطوة عسكرية جدية، بقدر ما كان محاولة لصناعة انطباع بالسيطرة بعد سلسلة من التراجعات في الخرطوم ووسط السودان. ورغم النبرة التصعيدية التي حملها الإعلان، فإن الواقع الميداني يكشف أن التهديد بالشمال أقرب إلى تضليل إعلامي منه إلى خطة عمليات فعلية. الوجهة الحقيقية ليست مروي أو دنقلا، بل الفاشر، عبر محور منواشي.

المسافة من قواعد الدعم السريع في دارفور إلى الشمال تتجاوز الألف كيلومتر، وتعبر أراضي مكشوفة بالكامل للرصد الجوي. لا غطاء طبيعي، ولا تضاريس تحمي، ولا بنية إمداد تتيح تنفيذ هجوم واسع. التحرك نحو مروي، مثلًا، يتطلب عبور شمال كردفان في مسارات غير ممهدة، تخضع لرقابة لصيقة من الطيران السوداني والطائرات المسيّرة. أي رتل يتحرك بهذا الاتجاه سيكون هدفًا مباشرًا وسهلًا للإجهاض قبل أن يصل إلى أي جبهة تماس.

أضف إلى ذلك أن قوات الدعم السريع لا تملك العقيدة القتالية أو القدرة اللوجستية لخوض حرب طويلة في بيئة صحراوية مفتوحة. بنيتها مبنية على القتال غير النظامي، وعلى الاشتباك داخل المدن والمناطق الريفية الكثيفة. خطوط الإمداد الطويلة، وغياب الغطاء الجوي، والافتقار إلى الحاضنة القبلية في الشمال، تجعل أي عملية بهذا الاتجاه مقامرة خاسرة منذ بدايتها.

لكن التوقيت لا يخلو من دلالة. التهديد جاء بعد نكسات واضحة في الخرطوم، وفي لحظة تتزايد فيها الضغوط على قيادة الدعم السريع داخليًا، وتتبلور محاولات إقليمية ودولية لفتح مسار تفاوض قد يُقصي التنظيم أو يقلّص من نفوذه السياسي. في هذا السياق، يبدو التصعيد موجهًا إلى الداخل أكثر من كونه تهديدًا جديًا للخارج. هو رسالة إلى المقاتلين، هدفها رفع المعنويات، وإبقاء صورة القيادة قوية ومبادرِة.

الأرجح أن هذا التصعيد الإعلامي غطاء لتحرك فعلي باتجاه مدينة الفاشر. الطريق الأقصر، والأكثر انسجامًا مع طبيعة عمليات الدعم السريع، هو محور منواشي–الفاشر، لا محاور الشمال. الفاشر هي الهدف الحقيقي، وكل ما يُثار حول الشمال هو إلهاء وتشتيت للجهد الاستخباراتي والرصد الميداني. إنها ضوضاء تكتيكية، الغرض منها صناعة وهم بتحول استراتيجي، بينما تُرسم فعليًا خريطة الهجوم في الغرب.

وللفاشر وزن لا يقارن. هي مركز سياسي وعسكري وقبلي، وآخر نقطة ارتكاز حيوية للحكومة في دارفور. خسارتها ستمنح الدعم السريع دفعة سياسية وعسكرية كبرى، وتعيد تشكيل ميزان القوى في الإقليم. أما صمودها، فسيكون أكثر من مجرد فشل عسكري للتنظيم؛ سيكون إعلانًا عمليًا بأن تمدده بدأ ينكمش، وأن الحاضنة التي طالما استند إليها تتآكل. هذا قد يشجع قبائل وقوى محلية على الانسحاب من تحالفه أو حتى مواجهته، ويقوي موقف القوى المدنية والمسلحة في أي مفاوضات قادمة.

الرهان على الفاشر هو رهان وجود. خسارتها ستدفع التنظيم إلى مرحلة التفكك التدريجي، حيث يتقلص إلى جيوب معزولة أو ينقسم إلى مجموعات مسلحة منفلتة، بلا قيادة موحدة أو مشروع واضح. عندها لن يبقى كقوة سياسية، بل كأحد عناصر الفوضى في مشهد يتجه نحو مزيد من التشظي.

بهذا المعنى، ما يُقال لا يعكس ما يُنفذ. التهديد بالشمال لا يستند إلى منطق عسكري، ولا يخدم هدفًا استراتيجيًا حقيقيًا. أما الفاشر، فهي أكثر من مدينة. هي عقدة الحسم، ومن نتائج معركتها سيتحدد شكل المشهد: إما تنظيم يحافظ على ما تبقى له من نفوذ، أو شبح قوة تتلاشى بالتدريج.

الطريق إلى الفاشر، لا إلى الشمال. ومن يكسبها، يكتب ما تبقى من سطور الحرب، ومن يخسرها، تُطوى صفحته مع الرمال

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى