الجنرال الفرنسي فرديناند فوش هو كاتب وجنرال اختير مارشالاً ورئيساً لأركان الجيوش الفرنسية وقائداً أعلى لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، كان للجنرال سائقاً يسمى فوش وعندما يعود فوش الى منزله مساءاً يسأله الجيران متى تنتهي الحرب يا بيار فيقول لهم الجنرال لم يقل شيئاً وذات يوم كرروا عليه السؤال فأجابهم اليوم تكلم الجنرال فسألوه بلهفة ماذا قال؟ فقال لهم سألني متى تنتهي الحرب يا بيار؟
واليوم الشعب السوداني كله يتساءل متى تنتهي الحرب التي أكملت شهرها التاسع والبلاد تشهد موعد احتفالات مؤجلة بذكرى الإستقلال ودخلت في شهرها العاشر في ظل تعقيدات دولية لا تبشر بأفق حل قريب ذلك لأن هذه الحرب ليست كما بسطها البعض في الأيام الأولى لأغراض تخصهم بأنها صراع بين جنرالين ولكن تتشابك فيها وتتصارع أجندات كثيرة بعضها دولي وآخر إقليمي وثالث عربي ولا حاجة لي إلى ذكر أي شواهد في هذا العالم المفتوح إعلامياً .
إن هذه الكارثة الوطنية قد قضت على الأخضر اليابس وذاق الشعب خلالها صنوفاً من العذاب لم تشهدها أي حقبة تاريخية ولم تعرفها أي دولة في العالم فهي حرب تستهدف الشعب نفسه، حرب تجرد المواطن من أبسط شيء يمتلكه إلى حياته كلها، فتم فيها إلى حد كبير إفراغ البلاد من سكانها الذين تفرقوا أيدي سبأ بين نازحين داخل بلادهم ولاجئين في الدول الأخرى، ولعل الأمر المؤسف أن الذين لجأوا للخارج هم من يسمون بالطبقة الوسطى وهي تضم شريحة المتعلمين والحرفيين في كافة التخصصات الحيوية مما يجعل من إمكانية إدارة الدولة نفسها أمرا عسيراً في المستقبل المنظور، والسؤال المنطقي هنا ماذا تستفيد أي مجموعة من حكم بلد ممزق ضعيف .
إن هذه الحرب التي لا تبقي ولا تذر كانت تجسيداً لنكباتنا السياسية التي بدأت قبيل الاستقلال بتبني الجماعات السياسية المختلفة لنهج لا يفرق بين الوطن والحكومة فكانت المعارضة في ظل عهود عديدة تسعى لإسقاط البلاد بدلاً عن استهداف الحكومة في خلط واضح بين الحكومة والحزب ممتزجاً بالقبيلة العابرة للأحزاب والتنظيمات السياسية والمعروف أن الإنسان بطبعه يشعر دائماً بالتفوق على الآخرين انطلاقاً من خصائص متوهمة في جدلية الصراع بين الأنا والآخر ولكن الذي لدينا في السودان فاق كل المقاييس، إذ لا توجد لدينا رؤية وطنية جامعة ولا أولويات أو ثوابت متفق عليها بين الفاعلين السياسين وهم تقريباً نصف الشعب السوداني إن لم يكن كله ففي الوقت الذي تمنح فيه كل المهن رخصة ممارسة أصبحت السياسة مهنة عاطلي العقل والفطرة السليمة لذلك تجد غالباً أن اكثر الناس فشلاً داخل وخارج السودان هم من يتصدون للعمل السياسي ولأنهم موقنون بعدم كفاءاتهم تجدهم مرتهنون للخارج إلا في استثناءات قليلة، لذلك ضاعت هيبة الحكومات التي تعمل في ظل هشاشة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ونزاعات مسلحة اندلعت قبيل الاستقلال منطلقة من الخارج محتمية به ومنفذه لأهدافه التي دفع فواتيرها الشعب السوداني منذ ما بعد نهاية الثورة المهدية وإلى اليوم، وأصبحت قيادة الحكومات تتلقى تعليماتها من خارج الحدود والذين يعارضونها يأخذون توجيهاتم كذلك من حدود أخرى، لذلك بلغ الأمر أن يصل الإختراق الى مكاتب رأس الدولة ويكافأ من قام بتلك الخيانة العظمى بأن يصبح مسئولاً في الدولة التي كان عميلاً لها ومن عجب ألا تتخذ حكومة ذلك الزمان أي أجراء ضد تلك الدولة وقد كانت تلك بداية السقوط لا للحكومة بل للدولة.
أما بعض سياسيو السودان المقيمون في الخارج فهم موضوع قصص آخر من الخنوع والخضوع وبعضعهم خُطط ومُكن له فعاد يتسنم المواقع ويتلقى راتباً علناً من دول التجنيد هو والآخرين ويفاخر أمام الملأ بعمالته ويجزم بعدم الإعتذار عما ارتكب من جرم بحق الوطن بل يباهي به ويفتخر- يتبع