صحيح أن الأسئلة والاستفسارات التي تصلني من أصدقاء وأهل ومعارف عن الجبهة الشعبية السودانية، تصلني جميعها تقريبا بصفتي الأمين العام لهذه الجبهة الذي أعلن عن تكوينها قبل نحو أسبوعين تقريبا بين بورتسودان والقاهرة، إلا أن اجابتي علي بعض هذه الأسئلة، بتلك الصفة – الأمين العام – لم تصر متاحة بعد، ذلك أن أجهزة الجبهة التي تم تشكيلها حتى الآن – المجلس الرئاسي والأمانة العامة – لم يتيسر لها الإجتماع بعد، لتحدد موقفا قاطعا، في بعض المسائل يكون هو الرأي الملزم، لذلك رأيت أن اجيب علي الممكن من تلك الأسئلة في هذا المقال، بما هو متاح عندي من معلومات، وباعتباري القاسم المشترك بين عناصر تكوين هذه الجبهة بمختلف مرجعياتها الجماعية والفردية، وباعتبار مشاركاتي في كل مراحل تخلقها تقريبا منذ عشرات السنين، ولكن ليس بموقعي امينا عاما للجبهة الشعبية السودانية.
قد لا يكون هناك تواصل بين أول مشروع وطني لبناء كيان قومي شعبي سوداني عريض، وبين الجبهة الشعبية السودانية التي نراها استجابة لهذه الحاجة المستمرة، وامتدادا لتلك التجربة الأولي التي حققت نجاحات عظيمة، لكنها لم تحصن بما يكفيها لصد صدمات التحديات الداخلية والخارجية، ولعلي أشير في ذلك إلى تجربة الثورة المهدية التي وحدت السودانيين علي المعاني العليا السامية، وحققت بهم أكبر إنجاز وطني ثوري شعبي، بأن هزم السودانيون بوحدة صفهم المستعمرين شر هزيمة، وطردوهم من ديارهم، وطهروا أرضهم من دنسهم، لكنهم لم يستطيعوا الحفاظ علي وحدتهم، وتماسكهم، وحدث ما حدث.
تجربة الثورة المهدية لا بد أن تكون حاضرة، لأنها محتشدة بالدروس والعبر، منها الموجب ومنها السالب، والمهم فيها أن اركانها قامت علي كل قواعد البيت السوداني الكبير، لكنها لم تجعلها أساسا للبناء الجديد، إلا أن الناس لم يصبروا علي البيت الواسع الكبير الذي بناه الإمام المهدي رضي الله عنه وأرضاه، فسرعان ما عادوا إلى حواضنهم القديمة الضيقة، فكانت الفرقة والشتات، والصراع، واضطر البعض إلى موالاة الغزاة، أو الاحتماء بهم، فسقطت الفكرة والثورة قبل أن تسقط الدولة.
الكيان الجديد الذي ظهر اخيرا في ثوب الجبهة الشعبية السودانية لم يكن مخططا له أن يصير إلى ما صار إليه الآن، ولكن تسارع الأحداث وتوالي الخطي والخطوات، واستيعاب دروس وعبر الماضي، والتطلع إلى مستقبل نتجاوز فيه كل عثرات الماضي، وبناء وطن شامخ يسعنا جميعا، ويجد كل سودانى نفسه في بلده مواطنا كامل الأهلية، هو الذي قادنا إلى هذا السبيل.
مراحل التخلق الأولي كثيرة وبعيدة، ولكن دعونا نبدأ من الأقرب، ذلك لأن تجاربها متصلة، وشخوصها لا يزالون فاعلين، وهذه بدأت في خواتيم العام ٢٠١٨م عندما انقسم الفاعلون في الساحة إلى شعارين، تسقط بس، وتقعد بس، فظهر تيار يدعو الى طريق ثالث بين تسقط بس، وتقعد بس، وضم هذا التيار نفرا مقدرا من كل مكونات السودان السياسية وغير السياسية، ومنهم من كانت تدعو جماعاتهم إلى تسقط بس، ومنهم من كان يرفع ناسهم راية تقعد بس.
وعندما سقط نظام الانقاذ في الحادي عشر من شهر أبريل عام ٢٠١٩م، توجسنا من أن يقود هذا السقوط المحفوف بالشكوك إلى سقوط الدولة، وقد يقود إلى سقوط السودان كله، فاصطففنا خلف شيخنا الشيخ الياقوت الشيخ محمد الشيخ الإمام الشيخ مالك شيخ الطريقة السمانية الخلوتية أطال الله عمره، والتف حولنا كثيرون من الفاعلين في الساحة السياسية وغير السياسية، وقدنا معا مبادرة لوحدة الصف الوطني، ولكن تآمر عليها المتآمرون، وخنقها المتربصون، فاغتالوها وهي لا تزال في المهد وليدة.
لم تقف مساعينا، وتواصلت مساعي آخرين كثر للبناء علي القواسم المشتركة التي تجمع السودانيين، وهي أكثر وأعظم من التي تفرقهم، وفي الساعات الأخيرة السابقة لاندلاع حرب أبريل الأخيرة، نشط بعض قادة سلام جوبا، للحيلولة دون نشوب الحرب، ونشطت معهم، ولما اشتعلت الحرب، نشط معنا آخرون من مشارب عدة، وصرنا نسعي معا لوقف الحرب، ولما نشأ منبر جدة للتفاوض بين الجيش والدعم السريع لوقف الحرب، تفرغنا إلى الإعداد لما بعد وقف الحرب، ووسعنا الدائرة، وكلفنا مجموعة أكاديمية سياسية مقدرة، قامت بإعداد ورقة مفاهيم أساسية محترمة، قدمناها للجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، وعدد من الجهات المهتمة بالشأن السوداني، ووجدنا متابعة واهتماما عظيما من السيد مالك عقار نائب رئيس مجلس السيادة.
ولما وجدنا أن المبادرات الخارجية كلها تقريبا محفوفة بالمكاره، أو عاجزة، قررنا أن نصوب جهدنا نحو الحوار السوداني السوداني، ولأن الحرب تحولت من حرب بين الدعم السريع والجيش، إلى حرب تشنها المليشيا المتمردة، ومعها مستنفرون من دول شتي، تدعمهم وترعاهم الإمارات ودول عدة، ضد السودان وأهله جميعا، وأن الجيش السوداني يخوض حرب الكرامة دفاعا عن أرض وعرض، ومال، وتاريخ، وحاضر ومستقبل السودان، وضعنا للحوار السوداني السوداني أربعة مرتكزات أساسية، هي وحدة وسيادة السودان، والنفرة الشعبية للدفاع عن الوطن، ودعم القوات المسلحة، وحوار سوداني-سوداني شامل لا يستثني أحدا، ويضع الأسس والضوابط لبناء دولة المواطنة الحديثة الناهضة المستقرة التي تقوم علي الحقوق والواجبات المتساوية، ثم عرضنا ذلك علي كل المتاح لنا من المكونات السياسية وغير السياسية، مجموعات وافرادا، ووجدنا استجابات مقدرة من أحزاب سياسية، وحركات كفاح مسلح، ومكونات مجتمع مدني فاعلة، من الإدارات الأهلية والطرق الصوفية، ومن الإعلاميين والمثقفين والفنانين، والاكاديميين وأصحاب المال والأعمال والقيادات العمالية، ومن شخصيات فاعلة في المجتمع السوداني.
عرضنا مشروعنا للحوار السوداني السوداني، علي المجلس المصري للشؤون الخارجية، وهو جهة مصرية لها تقديرها ومكانتها داخل مصر وخارجها، ويقف علي قيادته شخصان عظيمان، لهما مكان عظيم عند كل أهل السودان تقريبا، هما رئيس المجلس السفير محمد العرابي وزير خارجية مصر الأسبق، ونائبه السفير صلاح حليمة مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، ومدير مكتب الجامعة العربية في السودان لمدة تسع سنوات، فوجدت الورقة عندهم استحسانا واستصحبوا مرتكزاتها الأساسية في الورقة التي استخلصوها حصادا لمقابلات وحوارات كثيرة اجروها مع مكونات مجتمعية سودانية مختلفة، وقدموا ذلك في ورقة تحت مسمي “المبادرة المجتمعية لحل الأزمة السودانية” وطلبوا لقاء مع مجموعتنا للحوار السوداني السوداني، فدعونا نحو ثلاثين يمثلون كل مكونات مبادرتنا من السياسيين وغير السياسيين، فجلسنا إليهم، وعرضوا علينا مبادرتهم، وناقشناهم فيها، ثم قبلناها اساسا لحوار سوداني يرعاه المجلس المصري للشؤون الخارجية، وتحتضنه العاصمة المصرية القاهرة خلال فترة وجيزة حددوها بشهر واحد فقط.
اطلعنا السيد عقار علي مشروع مبادرة المجلس المصري للشؤون الخارجية، باعتباره اول مسؤول سوداني يدعو الى حوار سوداني سوداني شامل لا يستثني أحدا، ولانه ظل يتابع مشروعنا للحوار لحظة بلحظة، ويتعاطي معه بجدية ومسؤولية، فاستحسن عقار الفكرة، وشجعنا علي المضي قدما في طريقها، فأوصلناه هاتفيا بالسفير صلاح حليمة، فاخبره السيد عقار بمباركته للمبادرة المجتمعية، ووعد باسنادها ودعمها.
وفي هذه الأثناء اجتاحت مليشيا التمرد مدينة واد مدني، حاضرة ولاية الجزيرة، وقلب السودان النابض، واستباحت كل شئ، وبينما أصابت الحاكمين جميعا حالة صمت غريبة، والشارع يضج بأسئلة ساخنة، يصل بعضها حد الاتهام، في هذه اللحظة قطع الملك عقار رحلة استشفاء في تركيا، وعاد إلى أرض الوطن، وقدم خطابا مسؤولا، أشفي صدور كل الوطنيين السودانيين، وصفه كثيرون بأنه أهم خطاب لمسؤول حكومي منذ اندلاع الحرب في الثاني ، أو الثالث عشر من شهر أبريل العام الماضي ٢٠٢٣م، وقال البعض أنه الأهم منذ أبريل العام ٢٠١٩م.
السودانيون جميعا سعدوا بهذا الخطاب التاريخي للسيد الملك، إلا أن سعادتنا في مجموعة الحوار السوداني السوداني كانت أكبر منهم جميعا، ففضلا عن أن السيد عقار منا، ونحن منه، فذلك أكد صحة رهاننا علي الملك، وأكد قولا وعملا، أنه الوريث الشرعي لحكمة وجسارة، وصلابة، وإقدام كل الزعماء السابقين، وارتضيناه قائدا للمسيرة، وبعثوني من القاهرة إلى بورتسودان لمقابلته، وجمع الناس حوله، ليقود بنا مسيرة الخلاص والتحرر، ثم البناء.
وصلت بورتسودان في أول رحلة للناقل الوطني، شركة الخطوط الجوية السودانية “سودانير” وذلك في حد ذاته فأل حسن، فسودانير ظلت لاكثر من سبعين عاما هي الناقل الوطني للخير والجمال، قبل أن تكون ناقلة للناس والمتاع، وقابلت في اليوم التالي لوصولي السيد عقار، فوجدته كما العهد به، ثابتا راكزا كالطود الاشم، نقلت له رهان مجموعة الحوار عليه لقيادة مشروع جمع الشمل الوطني، لرد العدوان، ودحر الغزاة الأشرار خلف القوات المسلحة، وقيادة تأسيس دولة المواطنة الناهضة التي تسع السودانيين جميعا بلا استثناء، فجدد استعداده والتزامه، وطلب مني معرفة رأي الأخوة في بورتسودان أيضا، فاتصلت بعدد من السياسيين، ومن حركات الكفاح المسلح، والنقابيين، ومن الإدارة الأهلية، والطرق الصوفية، والاكاديميين، وغيرهم، ووجدتهم أكثر حماسا للمشروع، وقناعة بقيادة السيد عقار له، فرتبنا لقاء جامعا مع السيد ملك في مقر إقامته في بورتسودان، شاركت فيه مجموعة بورتسودان وتابعته مجموعة القاهرة أون لاين، فاختارت المجموعتان السيد عقار رئيسا لكيان شعبي جامع يسعي لتحقيق الأهداف الأربعة التي توافقوا عليها، ورشحوا شخصي منسقا عاما لهذا الكيان، وكان اختيارهم للسيد عقار لشخصه، ولوضوح رؤيته لحل كل مشكلات السودان، وليس لموقعه نائبا لرئيس مجلس السيادة البتة، ورشحوني منسقا عاما لأنني القاسم المشترك بينهم جميعا.
واحد فقط من الذين كانوا حضورا في لقاء بورتسودان اعترض علي رئاسة السيد عقار للكيان، وكان منطقه أنه جاء إلى بورتسودان ضمن مجموعة لها مشروع مشابه، قدموا المشروع للسيد رئيس مجلس السيادة الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان، فحولهم للسيد عقار، الذي استلم منهم المشروع، ووعدهم أن يجلس معهم بعد دراسته للمشروع لكنه لم يفعل، لذلك هم يعترضون علي رئاسته لكيان جديد قبل أن يحسم أمر مشروعهم الذي احاله له السيد الرئيس.
قدم السيد عقار ردا قويا ومنطقيا علي السيد المعترض، سكت به عن الكلام، وجلس صامتا، ومضت الإجراءات طبيعية، واجمعوا علي السيد عقار رئيسا وجمال عنقرة منسقا عاما، وتم إعلان ذلك، ولكن يبدو أن الاعتراض الذي خمدت نيرانه في قاعة الإجتماع اشتعلت خارجه، فحضر بعض أطراف ذاك المشروع في ذات الليلة من القاهرة إلى بورتسودان لرفع صوت الاعتراض علي رئاسة السيد عقار للكيان الشعبي الجديد لأنهم يعتقدون أن ذلك يعني نهاية مشروعهم.
جلست صبيحة اليوم التالي مع السيد عقار، وتفاكرنا في الموضوع، ولأن حرصنا علي رئاسته للكيان كانت لشخصه، وليس لموقعه السيادي، ولأنه من خلال موقعه نائبا للرئيس ومسؤولا عن الملف السياسي سيكون راعيا لنا جميعا، قبلنا اعتذاره، وبدأنا رحلة البحث عن رئيس جديد.
اول واقوي خيار كان مولانا السيد محمد عثمان الميرغني، وكان ترشيحه أيضا لصفاته التي لا يقاربه فيها أحد، لذلك اعترض الناس علي أن يكون نجله نائبه، وتوافقوا علي أن يكون له عدد من النواب فاعلين يشكلون معه مجلسا للرئاسة.
ولما مضت أيام ولم تصلنا موافقة مباشرة من طرف مولانا، تم طرح الأمر مرة أخري للتشاور، فتم شبه إجماع علي الناظر ترك رئيسا لشخصيته الكارزمية، ولمواقفه الوطنية المشرفة، ولجماهيريته الطاغية، وتم التوافق علي أربعة نواب للرئيس، هم الفريق اول ركن إبراهيم سليمان، والشيخ عبد الرحيم محمد صالح، والدكتور جبريل إبراهيم، والسفير الدكتور علي يوسف الشريف، وتم تغيير مسمي المنسق العام إلى الأمين العام، وتم انتخاب الدكتورة أميرة الفاضل نائبا للأمين العام بالإجماع لعلاقاتها الخارجية المميزة لا سيما في الإتحاد الأفريقي والمؤسسات التابعة له، وكثير من دول القارة الأفريقية وقادتها.
وتوزع المؤسسون إلى أمانات حسب رغباتهم، واختارت بعض الأمانات أمناء لقيادتها، فمثلا أمانة التعبئة الشعبية اختارت السيد عثمان اوشيك، والعلاقات الخارجية الدكتور تاج الدين نيام، والثقافة والفنون الفنان علي مهدي، والمال السيد مالك الشيخ حاج محمود، والإعلام الأستاذ محمد الفاتح، والحوار الدكتور عمار زكريا، والدراسات والبحوث الدكتور إبراهيم محمد آدم، وجاري استكمال بقية الامانات والهياكل، كما يجري الإعداد لانطلاقة قوية للجبهة في كافة المسارات لا سيما الحوار السوداني السوداني الشامل، وتوحيد الجبهة الداخلية، والتعريف بحقيقة ما يجري في السودان إقليميا وعالميا، مع التركيز علي البناء القاعدي للجبهة لتحقق مقصودها وعاء جامعا لأهل يشاركون جميعا في تاسيسه وقيادته بإذن الله الكريم.