
بقلم : رحمة عبدالمنعم
في سياق إقليمي معقّد ومرحلة سودانية متحوّلة، تتّجه الأنظار اليوم الخميس إلى القاهرة، حيث يُنتظر أن يبدأ رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس، أول زيارة خارجية له منذ توليه المنصب،ليست الزيارة مجرّد خطوة بروتوكولية في جدول علاقات ثنائية، بل هي تعبير دقيق عن موقع مصر في معادلة الخرطوم السياسية الراهنة، وعن محاولات سودانية لتموضع جديد على الساحة الإقليمية، عبر بوابة الدولة الأكثر انخراطاً في الشأن السوداني.
إن اختيار القاهرة كوجهة أولى ليس تفصيلاً، بل يحمل دلالات استراتيجية على مستويين: أولاً، من حيث تثبيت السودان الرسمي في إطار العلاقة مع الدول العربية، وخاصة مع الجوار المصري، الذي التزم موقفاً واضحاً بدعم الدولة السودانية ومؤسساتها، ورفضه القاطع لأي محاولة لشرعنة كيان موازٍ تمثله مليشيا الدعم السريع. وثانياً، من حيث السعي إلى تفعيل شبكة دعم حقيقية تتجاوز المواقف السياسية إلى الإسهام العملي في ملفات محورية، على رأسها إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
إن ملف إعادة الإعمار لا يمكن فصله عن التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه السودان، فهو يشكّل اختباراً لقدرة الحكومة الجديدة على وضع رؤية شاملة، بالتعاون مع الأطراف الإقليمية والدولية، لإعادة تهيئة البنية التحتية وتفعيل عجلة الإنتاج والخدمات في المناطق المنكوبة،من هذا المنظور، تأتي الزيارة في وقت مناسب لإطلاق نقاش جاد مع الجانب المصري، الذي سبق أن أبدى استعداده للمساهمة في هذه العملية، انطلاقًا من وعي مشترك بحجم التحديات وبأهمية استقرار السودان كعامل رئيس في أمن الإقليم.
تتصدّر أجندة الزيارة كذلك ملفات التعاون الاقتصادي الاستراتيجي، بما في ذلك مشروع الربط الكهربائي، ومشروع الربط السككي، بوصفهما جزءاً من رؤية تكامل تنموي عابر للحدود، يعزز من فرص الاستقرار والتداخل الإيجابي بين دولتي وادي النيل، هذه المشاريع، وإن كانت في ظاهرها فنية، إلا أنها تحمل في عمقها تصورات متقاربة حول أولويات التنمية، وتعزيز الاعتماد المتبادل في مواجهة الأزمات العالمية.
وفي سياق آخر، تُطرح قضايا الأمن المائي ضمن أولويات الحوار الثنائي، في ظل التحديات المتصلة بمياه النيل وتحولات الجغرافيا السياسية المرتبطة بملف سد النهضة، وبقدر ما يُعد الملف حيويًا لمصر، فإنه بات كذلك مسألة حيوية للسودان، لما له من انعكاسات على الزراعة، والاستقرار الريفي، ومستقبل التنمية في حوض النيل الأزرق.
ولا يقل ملف البحر الأحمر أهمية، بوصفه مجالًا استراتيجيًا لممرات التجارة الدولية، ومسرحاً لتنافس القوى الإقليمية والدولية. من هنا، فإن تعزيز التعاون بين الخرطوم والقاهرة لتأمين الممرات الحيوية، يمثل أحد المحاور الضرورية لأي رؤية إقليمية مستقرة، خاصة في ظل هشاشة بعض الدول المجاورة وتفاقم ظاهرة القرصنة والتسلح في البحر.
وعلى المستوى الإنساني، يبرز ملف الجالية السودانية في مصر، التي تمثل شريحة واسعة من المتضررين من الحرب،إن توفير حلول دائمة لقضايا التعليم والإقامة والتأشيرات، لا يقل أهمية عن ملفات السيادة والتنمية، فهؤلاء اللاجئون، رغم ظرفهم القسري، يشكّلون جسراً بشريًا بين الشعبين، ويمكن أن يتحوّلوا إلى مورد بشري ومعرفي يعزز أواصر التكامل بين البلدين.
إن زيارة الدكتور كامل إدريس إلى مصر تأتي في لحظة دقيقة، لا فقط لتثبيت العلاقات السياسية، بل لتجسير فجوة كبرى بين احتياجات السودان ومتطلبات النهوض الوطني، فالسودان في هذه المرحلة لا يحتاج إلى خطاب سياسي فقط، بل إلى منظومة شراكات حقيقية، تنطلق من فهم متبادل للمصالح، وتصب في استقرار الداخل، من خلال تفعيل التعاون مع الخارج.
وفي هذا السياق، تبقى مصر، بما تمثله من عمق تاريخي وجغرافي، شريكًا طبيعيًا وضروريًاً، لكن نجاح هذه الشراكة يظل مرهونًا بمدى وضوح الرؤية السودانية، وقدرتها على إدارة العلاقة الإقليمية دون الارتهان أو الانعزال، بل وفق معادلة السيادة والانفتاح في آنٍ واحد.