
في لحظة واحدة، انكسر كل شيء. لم يكن الهروب من الحرب نهاية الألم، بل بدايته. امرأة سودانية، أرملة، تحمل في قلبها صورة ابنها الشهيد، وفي يدها طفلتها التي المعاقة. وعلى كتفها عبء الحياة. وصلت إلى أرض جديدة، لا تطلب امتيازًا، فقط ملاذًا. ومعها ابنها الأصغر، سندها الوحيد، الذي لم يمضِ وقت طويل حتى سُحب منها، بلا مقدمات، بلا تفسير، بلا تدخل من أحد.
منذ تلك اللحظة، بدأت رحلة الانكسار. كل صباح، تخرج الأم حاملة طفلتها المريضة، تركض بين الأبواب، تسأل، تبكي، تنتظر. لا أحد يجيب. لا أحد يفتح. لا أحد يهتم. وجدت ابنها أخيرًا، مكبلًا، منهكًا، يواجه الترحيل، ويُطلب منها دفع مبالغ لا تملكها. لا جهة سودانية ظهرت، لا سفارة سألت، لا مسؤول تحرك.
السفارة السودانية بالقاهرة ، التي يُفترض أن تكون بيتًا لكل من ضاقت به الأرض، اختارت الغياب. لا زيارة، لا متابعة، لا حتى اتصال. وكأن هؤلاء المعتقلين لا يحملون الجنسية السودانية، وكأن أماني ليست من هذا الوطن، وكأن السفارة وُجدت لتكون ديكورًا سياسيًا لا علاقة له بالبشر.
هذا ليس تقصيرًا، بل تخليًا. ليس غفلة، بل تجاهلًا متعمدًا. ليس عجزًا، بل انعدام إرادة. السفارة لم تفشل، بل لم تحاول. لم تخطئ، بل لم تبدأ. لم تُخطط، لم تُتابع، لم تُبادر. تركت مواطنيها يواجهون مصيرهم وحدهم، وكأنهم عبء لا يُحتمل.
ومجلس الوزراء؟ صامت. لا قرارات، لا تدخل، لا حتى تصريح. العودة الطوعية؟ شعار فارغ. الحماية القنصلية؟ وهم. المواطن السوداني في الخارج يُعامل كغريب، كرقم مغلق. لا أحد يفتح، لا أحد يقرأ، لا أحد يتحرك.
ما يحدث الآن ليس مأساة فردية، بل فضيحة وطنية. كل لحظة تأخير هي جريمة. كل يوم صمت هو مشاركة في الظلم. كل مسؤول لم يتحرك، شريك في الانكسار. لا نطلب معجزة، نطلب مسؤولية. لا نطلب عطفًا، نطلب واجبًا. لا نطلب تبريرًا، نطلب فعلًا.
نطالب باستقالة السفير السوداني بالقاهرة فورًا. لا لأنه فشل، بل لأنه لم يكن موجودًا أصلًا. نطالب بتحرك فوري من مجلس الوزراء، لا ببيانات، بل بقرارات. نطالب بفتح ملفات المعتقلين، بزيارات رسمية، بدعم قانوني، بكرامة إنسانية. نطالب بأن يُعاد تعريف معنى السفارة، لا كمبنى، بل كضمير حي.
هذه ليست قصة أماني فقط. هذه قصة وطن يتهاوى حين يصمت من فيه، ويتخلى من يحكمه، ويتغافل من يُفترض أن يحميه. هذه قصة كل سوداني في الخارج، تُرك ليواجه مصيره وحده، بلا صوت، بلا سند، بلا وطن.
إذا لم تتحرك الدولة الآن، فإنها تُقر ضمنًا بأنها تخلّت عن أبنائها. وإذا لم تُحاسب السفارة، فإنها تُعلن أن الكرامة لم تعد من أولسمع صوت أماني، فإننا نعيش في وطن لا يسمع إلا نفسه.
هذا المقال ليس نداءً، بل إنذار. ليس رجاءً، بل مطالبة. ليس عتابًا، بل محاكمة. فليتحمل كل مسؤول مسؤوليته، أو ليرحل بصمت، كما صمت حين احتاجه الناس.
–