
أمس، نزلت دموعي وأنا أتصفّح على موقع “التيك توك” صفحة أخي إدريس عبدالمنعم،وجدت صوراً ومقاطع للشهيدين حسان صديق وبابكر عمر (كر)، أصدقاء أخي ورفاقه في دروب الشجاعة والنقاء،كان إدريس قد عنون الفيديو بكلماتٍ تحفر الوجع في القلب: “أمس فارقني الرفاق، فارقوا أرض النفاق، يمموا صوب المعاني، يمموا أرض اللحاق…”
قرأت العبارة، فاهتزّ داخلي كغصنٍ أثقلته الذكرى،تلك الصور لم تكن مجرد وجوهٍ على شاشة، بل أرواحاً عادت للحظةٍ كي تذكّرني بأن الموت لا يغيب الأوفياء، بل يرفعهم إلى مكانٍ أسمى من الدنيا.
أتذكّر حسان صديق، الشاب الغضّ الذي كان يحمل الوطن في عينيه قبل أن يحمل السلاح في يده، خرج من قريتنا الحُبيّة القلقالة إلى كردفان يرتدي زيّ الجيش، وفي قلبه يقينٌ بأن الدفاع عن الأرض والعِرض واجب لا يُؤجل.،قاتل هناك في إحدى محاور القتال، وسقط شهيداً، تاركاً خلفه وجوهاً تبكيه، وسماءً ما زالت تردّد اسمه بخشوع، لم يعش طويلًا، لكنه عاش كما يليق بالأبطال… نقياً، مؤمناً، واثقاً أن الوطن يستحق الدم لا الدموع.
أما بابكر عمر (كر)، فكان من أولئك الذين لا يعرفون الخوف، يوم دخلت مليشيا الدعم السريع قريتي الحُبيّة القلقالة، حاولت أن تسرق وتنهب، لكن كر ورفيقه حمد محمد نور وقفا في وجه الموت بصدورٍ عارية، دون سلاحٍ سوى الإيمان والكرامة. لم ينتظرا معجزة، بل صارا هما المعجزة، واجها الرعب بعيونٍ مفتوحةٍ على الحقيقة، وسقطا شهيدين وهما واقفان… كما يسقط النبلاء حين تختبرهم الأرض في لحظة عزّ.
ما زلت أذكرهما (حسان وكر)حين كانا يزوران بيتنا بحثاً عن إدريس، يضحكان، يتبادلان الحكايات الصغيرة، كأن الحياة لا تنتهي ،لم أكن أعلم أن تلك اللحظات العابرة كانت وداعًاً مؤجلًا،واليوم، كلما نظرت إلى وجه إدريس، أرى في عينيه غيابهم…صار أكثر صمتاً، وأكثر حضوراً في الميدان. يخرج كثيراً مع متحركات الجيش، كأنّه يريد أن يلحق بهم، أو لعلّه يريد أن يطمئن أن دماءهم لم تذهب سُدى، وأن السودان ما زال يقف رغم الجراح.
جيل حسان وكر جيلٌ مختلف، لم يولد في زمن الرفاه، بل في زمن الاختبار.،جيلٌ عرف الموت مبكرًا، لكنه أحب الحياة أكثر من سواهم، لأنهم كانوا يعرفون أن الحياة بلا كرامة ليست حياة،هم أبناء الأرض، أبناء القلقالة التي لا تنحني، خرجوا منها ببساطة الناس الطيبين وقلوب الأنبياء، فصاروا شهداءها وأبطالها.
سلامٌ عليك يا حسان في كردفان، حيث التراب ما زال يحتفظ بعبق دمك.وسلامٌ عليك يا (كر،) يا من واجهت الموت بلا سلاح إلا صدرك وصدقك..وسلام على حمد محمد نور، رفيقك في آخر لحظةٍ من المجد والرحيل..
أنتم لم تغيبوا… أنتم باقون في ذاكرة القرية، في عيون الأمهات، في صلواتنا، وفي قلب كل من عرف معنى التضحية،أنتم الورد الذي نبت من الرماد، والضوء الذي لا تنطفئ شعلته مهما طال ليل الحرب…سلامٌ على القلقالة التي أنجبتكم، وسلامٌ على الدموع التي تنزل كلما ذُكرت أسماؤكم، وسلامٌ على الوطن الذي ما زال يتنفس من صدوركم الطاهرةسلامٌ على قبري حسان وكر…سلامٌ على النقاء الذي يعلّمنا كل يوم أن البطولة ليست في من يعيش طويلًا، بل في من يرحل نقيّاً كأغنيةٍ لم تكتمل.






