
في ظل الأزمة السياسية والعسكرية المستمرة في السودان، تبرز الولايات المتحدة الأمريكية كفاعل خارجي يحاول توجيه مسار الأحداث بما يتوافق مع مصالحها من خلال أدوات الضغط السياسي والقانوني. لكن الأسلوب الذي تتبناه واشنطن، وفقاً لمصادر مقربة من الملف السوداني، يبدو تصعيدياً وينم عن رغبة في فرض الهيمنة بدلاً عن العمل كوسيط نزيه. وتكشف التطورات الأخيرة، وخاصة تلك المتعلقة بمفاوضات مؤتمر الرباعية الدولية وإدارة المبعوث الأمريكي مسعد بولس لها، إلى جانب نشاط محكمة الجنايات الدولية ضد أطراف محددة دون أخرى، عن وجه آخر للدور الأمريكي، يتسم بالمحاولات المباشرة لفرض إرادته على القيادة السودانية، ممثلة في قائد الجيش عبد الفتاح البرهان.
شروط واشنطن السياسية على طاولة الرباعية
في سياق متصل، عُقد مؤتمر الرباعية الدولية حول السودان قي يوليو الماضي، والذي ضم كل من الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والإمارات ومصر، في سياق سعي المجتمع الدولي لإيجاد مخرج للأزمة وإنهاء الحرب حسبما أعلن حينها. إلا أن مصادر دبلوماسية عدّة أكدت أن المبعوث الأمريكي للسودان مسعد بولس، الذي أدار عملية التفاوض، حاول تحويل اللقاء إلى منصة لفرض شروط سياسية محددة على الحكومة السودانية بقيادة البرهان.
هذه الشروط، وفقاً لمصادر سودانية تتعارض مع “السيادة السودانية”، لعدّة أسباب، أولها انعقاد المؤتمر دون مشاركة السودان، ثانياً، تضمنت إملاءات أمريكية حول ترتيبات المرحلة الانتقالية وتقليص الدور السياسي للجيش بشكل كامل وفوري، دون مراعاة للتعقيدات الأمنية على الأرض أو إرادة المكونات السودانية الأخرى. كما عُرض ضمن المبادرة الرباعية والشروط الأمريكية وقف فوري وغير مشروط لإطلاق النار تحت مسمى “وقف نار انساني” وذلك أثناء تقدم الجيش السوداني وتراجع ميليشيا “الدعم السريع” على الأرض وخسارتها كثير من مناطق السيطرة، وذلك بهدف إعطاء “الدعم السريع” الفرصة لاستعادة قوتها وترميم خسائرها بذرائع إنسانية. ولكن البرهان حينها أدرك ذلك ورفض العرض الأمريكي وخرج وانتقد بولس بتصريحات رسمية واتهمه بعدم الحياد.
وبحسب مراقبين، فإن الشروط والإملاءات الأمريكية مثلت محاولة استمرار للنهج الأمريكي الذي يعامل السودان كدولة تابعة، يجب أن تستجيب للتوجيهات الخارجية دون نقاش. كما يدل على رغبة المشاركين بدعم أحد طرفي الصراع وإعادة توزيع مناطق النفوذ وفرض حل خارجي وليس إيجاد حل تفاوضي للأزمة.
رفض البرهان والموقف السيادي
في مواجهة هذه الضغوط، أظهر الجيش السوداني والحكومة السودانية بقيادة البرهان صلابة واضحة، عبر رفضه الانصياع للشروط والتهديدات الأمريكية التي نقلها مسعد بولس. حيث أرسل الرفض السوداني رسالة واضحة بأن القرار السوداني سيادي، وأن القيادة العسكرية لن تكون أداة لتنفيذ أجندات خارجية، حتى لو كانت مبطنة بلغة الدبلوماسية الدولية. هذا الموقف نابع من قراءة دقيقة للمشهد الداخلي، حيث يحظى الجيش بقدر من التأييد الشعبي كضامن للاستقرار في ظل انقسامات القوى السياسية، وأيضاً من إدراك أن الاستسلام للشروط الأمريكية قد يؤدي إلى فراغ أمني وسياسي أخطر من الوضع الحالي.
تصعيد التهديدات.. من الأسلحة الكيماوية إلى محكمة الجنايات
ومع فشل الضغط الدبلوماسي والسياسي بفشل مؤتمر الرباعية والمبادرات اللاحقة له، انتقلت الإدارة الأمريكية إلى أسلوب أكثر خطورة وهجومية، وهو تصعيد التهديدات القانونية والعسكرية. فقد شهدت الآونة الأخيرة تصاعد بالتصريحات من دوائر غربية تتهم الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيماوية في الصراع الدائر، وهي اتهامات جادة وخطيرة، تهدف إلى تشويه صورة المؤسسة العسكرية وتهيئة الرأي العام العالمي لخطوات قادمة. ويأتي ذلك بالتزامن مع تحريك نشاط محكمة الجنايات الدولية بشكل ملحوظ تجاه الملف السوداني، في إشارة غير خفية لتهديد الفريق البرهان وقادة الجيش بالمحاكمة الدولية في حال لم ينفذوا الشروط الأمريكية.
وكانت منظمة حقوق الانسان للتحالف السوداني، في أكتوبر الماضي، قد رفعت دعوى قضائية أمام المحكمة الجنائية الدولية ضد 4 من كبار قادة سلطة بورتسودان، بينهم رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، متهمة إياهم باستخدام الأسلحة الكيميائية وارتكاب انتهاكات جسيمة ضد المدنيين. وتستهدف الدعوى كل من رئيس أركان الجيش عبد الفتاح البرهان، وياسر العطا، وشمس الدين الكباشي، واللواء طاهر محمد.
إلى جانب ذلك، كان ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، في 17 نوفمبر الماضي طلبوا السجن المؤبد للقيادي السابق في مليشيا “الجنجويد” السودانية علي كوشيب المدان بتهم تشمل ارتكاب جرائم حرب في إقليم دارفور غربي السودان قبل أكثر من عقدين، مما أثار سخرية السودانيين. خاصة وأنه يأتي في ظل الأحداث المأساوية التي تشهدها مدينة الفاشر عاصمة ولاية دارفور، والتي تعيش واحدة من أكثر الفترات دموية منذ اندلاع الحرب في السودان.
كما رأى بعض المحللين في إعلان “الجنايات الدولية” مجرد رسالة تهديد غربية لقادة بورتسودان بأننا قادرين على استخدام عصاية العدالة الدولية ضدكم في أي وقت.
ورأى البعض الأخر، أن هذه المحاكمة جاءت بالتحديد في هذا الوقت بتعليمات غربية لغلق جميع الملفات المتعلقة بالسودان قبل أن يتم البحث في ملفات جديدة من بينها توجيه إدانة رسمية للسلطات الحالية باستخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين في السودان وارتكاب جرائم حرب، وهذا ما يتم الترويج له الان بين المواقف الرسمية لواشنطن ووسائل الإعلام الغربية، وكما حدث في العديد من الحالات المشابهة قبل ذلك لقضايا متعلقة بالشرق الأوسط.
وبحسب الباحث المتخصص بالشأن السوداني أدهم مشارقة، فإن هذا النهج الأمريكي يجمع بين “العصا القانونية” المتمثلة في المحكمة الجنائية، و”العصا الإعلامية” المتمثلة في اتهامات الحرب، في محاولة واضحة لكسر القيادة السودانية وإجبارها على الرضوخ، ثم اقتياد البرهان إلى المحاكمة الدولية.
وأضاف مشارقة، بأن الأخطر في الأمر هو استخدام “محكمة الجنايات الدولية” من قبل واشنطن وغيرها من الدول الغربية كأداة للضغط السياسي على الأشخاص أو الأنظمة أو الحكومات، في الوقت الذي من المفترض أن تكون فيه أداة لتنفيذ العدالة الدولية وإحقاق الحق ونصرة المظلوم.
ووفقاً للخبير، فإن الدور الأمريكي في السودان، كما تظهره هذه التطورات، يبتعد عن كونه وساطة محايدة لإنهاء الأزمة، ويتحول إلى طرف يسعى لتحقيق مصالحه ورؤيته، حتى لو كان ذلك على حساب الاستقرار الداخلي للسودان وسيادته، كما أن رفض البرهان للشروط والتهديدات يمثل دفاعاً عن القرار الوطني، لكنه يضع السودان في مواجهة مباشرة مع آلة ضغط دولية جبارة.
لذا بحسب مشارقة، فإنه من الضروري عمل وقفة عربية وإفريقية جادة لدعم الخيار السوداني، ورفض محاولات الهيمنة الخارجية، والضغط على واشنطن لتعود إلى دور الوسيط الذي يحترم إرادة الشعب السوداني ويضع مصلحته كأولوية بعيدة عن الأجندات السياسية.











