مقالات الرأى

قطر والسودان.. خيط أخلاقي في نسيج مُمزّق!

 

بقلم : رشان أوشي

يوم ١٥ أبريل 2023، دخل السودان طوراً جديداً من المأساة، وظهرت الاختبارات الكبرى لصدق التحالفات ومتانة المواقف.

عند سقوط الفاشر وبشاعة مجازر التطهير العرقي التي نفذتها مليشيا الدعم السريع، في لحظة غلبت فيها مصالح الأنظمة في الجوار الإقليمي على الضمير الإنساني، أعلنت قطر موقفاً واضحاً لا لبس فيه: إدانة جرائم مليشيا الدعم السريع في مدينة الفاشر، تأكيداً على انحيازها التاريخي للدولة السودانية ومؤسساتها الشرعية.

لم يكن ذلك الموقف تكتيكاً سياسياً، بل امتداداً طبيعياً لمسار أخلاقي طويل بدأ منذ اتفاقية الدوحة.

في الوقت ذاته، قدّمت قطر دعماً إنسانياً ملموساً خلال الحرب، معلنة مساهمتها في خطط الأمم المتحدة للإغاثة وتقديم المساعدات للنازحين، ومؤكدة عبر بياناتها الرسمية أنّ الحل في السودان يجب أن يكون سودانياً عبر الحوار الشامل، لا عبر فرض القوة.

وفي الميدان الدبلوماسي، واصلت الدوحة التنسيق مع العواصم الإقليمية لتخفيف تداعيات الحرب والحفاظ على وحدة الدولة، مجسّدة مفهوم الدبلوماسية المسؤولة التي لا تنسحب من الأزمات، ولا تتعامل معها بمبدأ براغماتي ضيق، بل تسعى لإعادة توازنها.

كانت حرب ١٥ أبريل امتحاناً أخلاقياً حقيقياً للجوار الإقليمي، فانكسرت القيم أمام المصالح، وتساقطت الشعارات تحت وطأة التوازنات الإقليمية.

لكنّ دولة قطر قدمت ما يمكن تسميته بـ الاتساق الاستراتيجي بين المبدأ والسلوك.وبهذا المعيار، يمكن قراءة الدور القطري في السودان لا كحالة طارئة، بل كمنظومة سياسية متماسكة تشكّلت على مدار عقدين.

منذ مطلع الألفية، أدركت الدوحة أنّ السودان ليس مجرّد ساحة نزاع داخلي، بل مفصل حيوي في الأمن العربي والإفريقي، وأنّ استقراره يعني توازن القرن الإفريقي وحماية العمق العربي من فوضى الأطراف.

وفي عام 2011، توّجت هذه الجهود بـ مبادرة الدوحة للسلام في دارفور، التي مثّلت أحد أنجح نماذج الوساطة في التاريخ السوداني الحديث.

لم تكتف قطر بأن تكون منصة للحوار، بل تحوّلت إلى فاعل بنيوي في هندسة ما بعد النزاع، مستندة إلى مفهوم “الدبلوماسية الترميمية” التي تربط بين التسوية السياسية والتنمية الاجتماعية.

فما إن وُقّعت وثيقة الدوحة حتى شرعت في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب في إقليم دارفور: مدارس نبتت كزهور على رماد القرى، مشاف أضاءت عتمة العزلة، ومراكز شرطة أعادت للدولة حضورها في الأطراف التي كانت غائبة عنها لعقود.

بين أعوام 2013 و2017، كانت جهود قطر في دارفور مزيجاً من الدعم التنموي وإرساء مبادئ السيادة الرمزية.
كنتُ شاهدة على تلك الأعوام التي تحوّل فيها الإعمار إلى إعادة بناء للثقة بين المواطن والدولة، في ما يمكن وصفه ضمن أدبيات ما بعد النزاع بأنّه تأسيس لـ الشرعية الاجتماعية.

كانت الدوحة تمارس السياسة بوصفها التزاماً أخلاقياً، لا مصلحة عابرة، وكانت تدرك أنّ التنمية ليست مجرّد بنية تحتية، بل ترميم للمعنى في مجتمعات أنهكتها الحرب.

فهي الدولة التي رعت السلام يوم كان السلام غير ممكن، وقدّمت الإعمار يوم احتاجت دارفور إلى الحياة، وساندت الجيش السوداني والدولة يوم حاولت المليشيات تقويض بنيانهما.

لقد أعادت حرب أبريل رسم خريطة الضمير في المنطقة، وفي هذه الخريطة ستظل قطر اسماً محفوراً في ذاكرة السودان، ليس بوصفها فاعلاً خارجياً، بل شريكاً في فكرة البقاء الوطني ذاته.

إنّ التاريخ لا يُكتب فقط بالمدافع، بل أيضاً بالأيدي التي تمسح الدمعة، وتبني المدرسة، وتعيد الثقة في الغد.

ولهذا، ستبقى الأيادي القطرية البيضاء قلادة في عنق السودان، ورمزاً لدولة آمنت أنّ الروابط التاريخية ليست شعاراً سياسياً، بل مسؤولية أخلاقية في زمن الخذلان، وأنّ السياسة في أصفى صورها ليست صراعاً على النفوذ، بل صوناً لمكتسبات الحلفاء الوطنية.

محبّتي واحترامي.

 

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى