
بقلم : رحمة عبدالمنعم
قراءة في إقالة بنجامين بول ميل
سلفاكير يطيح برجل الطموح: الجنرال يستعيد مفاتيح القصر
إقالة بنجامين بول ميل.. نهاية صعود سريع وبداية مرحلة الحرس القديم
جنوب السودان يعيد رسم توازنات السلطة داخل الحركة الشعبية
توت قلواك يعود إلى الواجهة.. وسلفاكير يغلق باب “المغامرة السياسية”
لم يكن قرار الرئيس سلفاكير ميارديت بإقالة نائبه للشؤون الاقتصادية بنجامين بول ميل، وتجريده من رتبته العسكرية فريق إلى جندي ثم فصله من جهاز الأمن الوطني، خطوة عادية في سياق تداول المناصب بجنوب السودان، بل كان إعلاناً صريحاً عن نهاية مرحلة وصعود أخرى، عنوانها “عودة الحرس القديم”،فإقالة بنجامين بول من جميع مناصبه لم تكن مجرد إجراء إداري، بل لحظة فاصلة في الصراع الصامت على خلافة الرئيس سلفاكير ميارديت، وإعادة رسم توازنات القوة داخل الدولة والحركة الشعبية معاً.
بنجامين بول، الذي صعد بسرعة لافتة كان يطمح لأن يصبح الرجل الأول في البلاد، لم يُخفِ رغبته تلك بين المقربين منه، ولم يتردد في بناء شبكته الخاصة داخل أجهزة الدولة، وإبعاد رجال سلفاكير واحداً تلو الآخر، مستفيداً من قربه من الرئيس ومن العائلة الحاكمة، ومن طموحٍ شخصيٍّ لا تحدّه الاعتبارات السياسية أو الحزبية.
لكن الجنرال كير، الذي خبر دهاليز السلطة منذ حرب التحرير، أدرك مبكراً أن الرجل الذي صعد بفضله بات يشكل تهديداً لمركزه،فكانت الخطوة الحاسمة: عزل بنجامين وإعادة الحرس القديم إلى مواقعهم — وزير شؤون الرئاسة، ومدير المكتب، وقيادة الحرس الرئاسي، ووزير المالية — في مشهدٍ بدا وكأنه عودة إلى الجذور السياسية والأمنية للحركة الشعبية في نسختها الأصلية.
أخطر القرارات تمثلت في إبعاد المستشار الأمني اللواء مدوت دوت يل، وإعادة المستشار القديم الجنرال توت قلواك مانيمي، أحد أكثر الشخصيات التصاقاً بالرئيس ووفاءً له،هذا القرار وحده حمل رسالة واضحة: أن كير استعاد زمام المبادرة وأغلق الباب أمام أي مغامرة داخل القصر.
نفوذ بنجامين بول كان قد تجاوز الحد الذي يُحتمل في الأنظمة التي تقوم على الولاء لا المؤسسات،فالرجل، القادم من خارج نسيج القيادة التاريخية للحركة الشعبية، لم ينشأ في صفوفها كما نشأ جيل قرنق وسلفاكير أو الجيل الذي تلاهما، بدأ مسيرته في التنظيم الشبابي للحركة، ثم اتجه نحو عالم المال والأعمال، ليصبح أحد الأثرياء الجدد الذين جمعوا بين الثروة والسياسة، وهي تركيبة خطرة في دولة ما زالت تبحث عن توازنها بعد حرب طويلة.
تزايد نفوذه، وامتداد يده إلى ملفات النفط والعائدات والعلاقات الخارجية، أثار سخطاً داخل الحزب، ليس فقط بين رموز المعارضة أو القيادات المحسوبة على مشار، بل حتى في داخل الحركة نفسها، وخصوصاً بين الحرس القديم الذي رأى في صعوده تهديداً لتاريخهم ومكتسباتهم.
إقالته لم تكن إذن معركة شخصية بين رئيس ونائب طموح، بل كانت لحظة دفاع عن هوية الدولة نفسها، فكير، في قراره، أعاد ترتيب البيت من الداخل، مستعيداً رموز حرسه القديم، ومغلقاً الباب أمام مشروعٍ كاد يُحوّل السلطة إلى شركةٍ خاصة تُدار من قِبل طموحٍ فرديٍ جامح.
الجنوب اليوم يقف عند مفترق طرق جديد،فبين إرث الحرب الطويلة وإغراءات الثروة النفطية، يبقى التحدي الأكبر أمام سلفاكير هو محاربة الفساد الذي تغلغل في مؤسسات الدولة، وإعادة بناء الثقة في نظامٍ سياسيٍّ أرهقته الولاءات المتبدلة، فالإصلاح الحقيقي لا يكون بمجرد إقصاء رجلٍ طامح، بل بخلق منظومة حكمٍ تستند إلى المساءلة والشفافية، لا إلى الولاء الشخصي أو الانتماء القبلي.
لقد أسقط كير رجلاً أراد أن يقفز فوق الحركة والتاريخ، لكنه في الوقت نفسه فتح أمام نفسه اختباراً أصعب: هل يستطيع أن يُصلح ما أفسدته سنوات النفوذ والفساد؟ وهل يكون تجريد بنجامين بول من رتبته العسكرية بداية لتجريد الدولة ذاتها من مظاهر التكلس والاحتكار؟
الزمن وحده كفيل بالإجابة، لكن المؤكد أن سلفاكير، بقراره هذا، أعلن بوضوح أن “الجنرال القديم” ما زال قادراً على الإمساك بخيوط اللعبة.







