نبض السودان

دارفور: بين الانفصال والوحدة.. قراءة في مشهد متغير

دارفور: بين الانفصال والوحدة.. قراءة في مشهد متغير

بقلم: د. عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس

في ظل النزاعات المسلحة التي يشهدها السودان، تبرز قضية انفصال دارفور كأحد السيناريوهات المحتملة التي تثير الجدل في الأوساط المحلية والدولية. فبعد عقود من التهميش والنزاعات، يجد الإقليم نفسه مجددًا في قلب العاصفة، حيث تتشابك المصالح الإقليمية والدولية مع تطلعات الفصائل المسلحة، مما يجعل مستقبله مجهولًا بين خيار الوحدة مع السودان أو السعي نحو الانفصال.

جذور الأزمة: تهميش تاريخي وصراع على الموارد

لم تكن أزمة دارفور وليدة اللحظة، بل تمتد جذورها لعقود طويلة من التهميش السياسي والاقتصادي، فضلًا عن الصراعات القبلية على الموارد الطبيعية. فالسياسات الحكومية المتعاقبة لم تستطع معالجة القضايا العالقة، مما جعل الإقليم ساحة خصبة لنشوء النزاعات المسلحة. التنافس على الأراضي الزراعية والمياه بين المزارعين والرعاة أدى إلى تفاقم الأوضاع، حيث تحولت الصراعات المحلية إلى مواجهات ذات طابع سياسي وقبلي أوسع نطاقًا.

على الرغم من توقيع اتفاق جوبا للسلام، والذي منح دارفور قدرًا من الحكم الذاتي، إلا أن تنفيذ الاتفاق شابه البطء والتعقيدات البيروقراطية. استمرار العنف وغياب الأمن حال دون تحقيق المصالحة المجتمعية، ما أبقى الأوضاع في حالة عدم استقرار مستمر.

الدعم السريع ومحاولة فرض السيطرة

مع اندلاع النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، شهد إقليم دارفور تصعيدًا غير مسبوق في أعمال العنف العرقي والانتهاكات الحقوقية. واتُّهمت قوات الدعم السريع بارتكاب مجازر ضد مجموعات إثنية محددة، ما زاد من حدة الانقسامات داخل الإقليم.

في مدينة الجنينة، تعرضت الأحياء السكنية لهجمات شرسة، وتم تدمير الأسواق والمستشفيات بالكامل، ما أدى إلى نزوح جماعي للسكان. ولم تكن زالنجي ونيالا والفاشر بعيدة عن هذا المشهد الدموي، إذ شهدت هي الأخرى عمليات قتل ونهب موسعة. هذا التوجه العسكري لقوات الدعم السريع يعكس رغبتها في فرض واقع سياسي جديد على الأرض، يتيح لها دورًا رئيسيًا في مستقبل الإقليم.

مشروع الحكومة الموازية: خطوة نحو الانفصال؟

في العاصمة الكينية نيروبي، اجتمع مؤخرًا تحالف سياسي جديد يسعى إلى تشكيل حكومة في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. هذا التحالف، الذي يضم عدة فصائل مسلحة وتنظيمات مدنية، يهدف إلى بسط نفوذه في مناطق تشمل عاصمة بديلة محتملة هي مدينة كاودا.

لكن رغم الطموحات الكبيرة، يواجه هذا المشروع تحديات جمة، أبرزها رفض المجتمع الدولي والإقليمي لفكرة إنشاء حكومة موازية، إضافة إلى الانقسامات الداخلية بين مكوناته. فبينما تسعى قوات الدعم السريع إلى فرض سيطرتها العسكرية، يحمل جناح عبد العزيز الحلو أجندة مختلفة تقوم على علمانية الدولة، مما يجعل التحالف هشًا وقابلًا للانهيار.

صمود الفاشر والقوات المشتركة: عقبات أمام الانفصال

تعد مدينة الفاشر، باعتبارها مركزًا إداريًا وعسكريًا رئيسيًا، عنصرًا استراتيجيًا في توازن القوى داخل دارفور. وقد تمكنت القوات المسلحة السودانية، إلى جانب القوات المشتركة التي تضم تشكيلات من الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاقات السلام، من الحفاظ على المدينة ضد هجمات الدعم السريع، مما يعيق أي مشروع انفصالي محتمل.

إن تمسك القوات المشتركة بالحفاظ على وحدة السودان يعكس مدى وعي العديد من القوى المحلية بخطورة سيناريو الانفصال. إذ أن انقسام دارفور قد يفتح الباب أمام حروب أهلية داخلية، لا سيما أن الإقليم يضم تركيبة إثنية معقدة قد تتصادم مصالحها في ظل غياب سلطة مركزية قوية.

مستقبل دارفور بين الوحدة والانفصال

أمام هذا المشهد المعقد، يبقى مستقبل دارفور رهينًا بعدة سيناريوهات متباينة. أحد الاحتمالات يتمثل في بقاء الإقليم جزءًا من السودان في إطار نظام فيدرالي موسع، يمنحه مزيدًا من الحكم الذاتي ويمهد الطريق لحل سياسي شامل. هذا السيناريو قد يكون الأكثر واقعية، حيث يمنح دارفور قدرًا من الاستقلال الإداري دون المخاطرة بانهيار الدولة السودانية.

لكن في المقابل، قد يؤدي استمرار النزاع المسلح إلى تفكك دارفور داخليًا، حيث تسيطر الفصائل المسلحة على مناطق منفصلة، ما قد يحول الإقليم إلى بؤرة صراع دائم دون حكومة مركزية قادرة على فرض الاستقرار. هذا السيناريو يهدد بتحويل دارفور إلى “ليبيا جديدة”، حيث تنتشر الفوضى وتتحكم المليشيات المسلحة في المشهد السياسي والأمني.

في ظل تصاعد الضغوط، قد تلجأ بعض الأطراف إلى الدفع نحو إعلان انفصال دارفور ككيان مستقل، خاصة إذا استمر تراجع نفوذ الحكومة المركزية في الخرطوم. غير أن هذا السيناريو يتطلب اعترافًا دوليًا ودعمًا اقتصاديًا هائلًا، وهي عوامل غير متوفرة حاليًا. إضافة إلى ذلك، فإن أي خطوة نحو الانفصال قد تواجه برد فعل قوي من الحكومة السودانية، ما قد يجر الإقليم إلى دوامة جديدة من العنف والصراع.

على الجانب الآخر، قد تتمكن القوات المسلحة السودانية من استعادة السيطرة على دارفور بالكامل، مما يعيد الإقليم إلى حضن الدولة السودانية، لكنه سيتطلب جهودًا مكثفة لإعادة الإعمار وتحقيق المصالحة المجتمعية ودمج الفصائل المسلحة ضمن هيكل الدولة.

وفي ظل تفاقم الأزمة الإنسانية، قد يتدخل المجتمع الدولي لفرض حلول سياسية أو إرسال قوات حفظ سلام دولية، إلا أن مثل هذه التدخلات غالبًا ما تواجه بتعقيدات سياسية وميدانية تجعل نجاحها أمرًا صعبًا.

دارفور بين الطموح والواقع

بعد خسارة الدعم السريع لمعركته العسكرية في الخرطوم ووسط السودان، بات يلوّح بورقة انفصال دارفور كآخر وسيلة للضغط، إلا أن هذا السيناريو يواجه عقبات كبرى. فالتفاف أبناء دارفور حول الجيش، وصمود الفاشر، إلى جانب وجود القوات المشتركة، كلها عوامل تجعل مشروع الانفصال أكثر صعوبة.

رغم أن سيناريو الانفصال يظل مطروحًا، إلا أن تحقيقه يتطلب عوامل غير متوفرة حاليًا، من دعم دولي واستقرار داخلي، وهو ما يجعل خيار البقاء ضمن السودان الموحد مع تعزيز الحكم الذاتي هو الأكثر واقعية.

يبقى مستقبل دارفور مرهونًا بالتطورات الميدانية والتدخلات الدولية، لكن الأكيد أن استقرار الإقليم سيظل عاملًا حاسمًا في تحديد مآلات السودان ككل. فما بين طموحات بعض الفصائل المسلحة ورهانات القوى الدولية، تبقى دارفور معلقة في انتظار مصير لم تتضح ملامحه بعد، فيما يظل الحل الأكثر منطقية هو إعادة بناء السودان على أسس أكثر عدالة، تضمن حقوق جميع أبنائه وتحقق الاستقرار المنشود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى