
كان أحد شعراء الحقيبة يعمل ساعياً بإحدى المدارس الثانوية براتب ضئيل لا يتجاوز العشرة جنيهات وكان راضيا ومقتنعا به، ومثل هذا الراتب في ذلك الزمان الأخضر كان يكفي ويفيض، لكن شعراء الحقيبة الكبار أمثال العبادي وود الرضي وسيد وعبيد وأبو صلاح وود الريح وعتيق كانوا جميعا غاضبين من مهنة زميلهم، ويلومونه -ليل نهار- على مهنته المتواضعة التي لا تليق بشاعر كبير تسير بكلماته العِذاب الركبان وتنتشي بها بيوت الأفراح، لكن الرجل كان دائما ما يردهم بابتسامته الراضية بأن الشعر موهبة وأن مهنته عمل يكسب به رزقه بكدحه وعرقه، فليس هناك عيب في مهنته ما دامت كافية وحلال، ويضيف عبارة أخيرة منهيا الخصومة ( لا يجمع الله بين الشعر والمال) لكن شعراء الحقيبة بكل هيبتهم وكبريائهم رفضوا كل دوافعه ومرافعاته، بل أنهم عقدوا اجتماعا صاخبا بمحلات الشاعر التنقاري بسوق أمدرمان والذي كان منتدى ومحطة إلتقاء لشعراء الحقيبة وناقشوا قضية الشاعر الزاهد المتمسك بمهنته البسيطة، وخرجوا باقتراح من الشاعر التِّنقاري الثري ووافق عليه الجميع وقرروا ابلاغ الشاعر وكان مفاده باختصار ( أن التِّنقاري التزم بأن يدفع راتب شاعرنا الساعي ويضاعفه ثلاثة أضعاف، بل ويدفع له راتب عام كامل ضمانا للإلتزام)
ذهب العبادي وعتيق سراعا يغمرهم الفرح والزهو بالحل العبقري وقابلوا زميلهم بنشوى غامرة وهم يبلغونه الخبر السعيد. سألوه عن مقدار راتبه حتى يكملوا الصفقة. ورغم تقديره لما فعلوه إلا أنه كان غير مقتنع بمغادرة وظيفته الثابتة تلك التي كانت تملأ حياته وتكفي أسرته. وكان الرجل يبحث عن إجابة تخلصه من الحرج ولا تجرح أصدقائه الكبار فقال بلغة مرحة ساخرة ( والله أنا راتبي ما عارفه كم، لكن أنا والناظر النور ابراهيم بصرفوا لينا ٩٠ جنيه) ضحك العبادي وعتيق مليا وأدركوا بفطنتهم موقف الرجل وشربوا القهوة معه وقرءوا مجموعة من القصائد وعادوا للتِّنقاري بإجابة خالية الوفاض معلنين بأن مهمتهم (التاريخية) قد باءت بالفشل.
تذكرت هذه الحكاية السودانية اللطيفة الموحية وأنا اقرأ بيان وزارة الخارجية الاماراتية على مرور عامين على الحرب السودانية البيان الذي أتى مثقلا بالكثير من النقائض والتناقضات والمغالطات والتي سأرد عليها لاحقا كتابة وشفاهة، ولكن يبقى بيت القصيد في تصريح السيدة لانا نسيبة مساعدة وزير الخارجية للشئون السياسية ممتنةً بأنها (دفعت للسودان ودول الجوار) ٦٠٠ مليون دولار اعانات وعمليات اغاثة انسانية وهي ذات العبارة التي استخدمها شاعر الحقيبة البسيط (أنا والناظر بنصرف ٩٠ جنيه) ترى هل فشل محاسب وزارة الخارجية الإماراتية في تحديد ما ناله السودان وما نالته دول الجوار أم أنه عجزٌ في الصياغة أم أنه حياءٌ من ضآلة المبلغ الذي لا يرقى إلى فضيلة المساندة على نوائب الدهر مع بلدٍ في قامة السودان له في خدمة الإمارات حبر ودم وعرق؟