
قراءة تحليلية في ضوء نوع الطائرة، العقوبات، والحرب( 1)
كتب: إبراهيم عدلان
مقدمة
لطالما كان مجال الطيران المدني والعسكري في السودان يواجه تحديات متزايدة، تراوحت بين ضعف البنية التحتية إلى آثار العقوبات الدولية،لكن تحليل سجل الحوادث الجوية يكشف علاقة أوثق بين نوعية الطائرات المستخدمة، الإهمال في الصيانة والتدريب، والبيئة التشغيلية غير المستقرة. تفاقمت هذه الأزمات مع اندلاع الحرب في أبريل 2023، ما أدى إلى تحطم طائرات داخل مطارات البلاد، وعلى رأسها مطار الخرطوم الدولي.
أولًا: الحوادث المرتبطة بنوعية الطائرات
عند استعراض الحوادث الجوية منذ الثمانينات، يلاحظ أن غالبية الطائرات المتورطة تنتمي إلى طرازات روسية أو سوفيتية قديمة مثل:
• Antonov An‑24 / An‑26 / An‑32
• Ilyushin IL‑76
• Boeing 707‑C (مستعملة)
• Airbus A310 (رحلة 109 – Sudan Airways)
وتُظهر السجلات أن الطائرات الأوكرانية أو الروسية، والتي أصبحت العمود الفقري لأساطيل السودان الجوية، كانت سببًا مباشرًا أو غير مباشر في عدد من الكوارث الجوية، إما بسبب:
• التقادم الفني (غالباً فوق 30 عامًا خدمة)،
• أو ضعف الصيانة،
• أو قلة الكفاءات الفنية لتشغيلها في ظروف صعبة.
مثال صارخ هو تحطم Antonov في Talodi عام 2012 الذي أودى بحياة مسؤولين كبار، وتحطم An‑24 لشركة Tarco عام 2010 نتيجة لعطل في الهبوط.
ثانيًا: العقوبات الدولية وتأثيرها على السلامة الجوية
تسببت العقوبات الاقتصادية الأمريكية والدولية المفروضة على السودان منذ التسعينات في شلل شبه كامل لقدرة البلاد على تحديث أسطولها الجوي. ومن أبرز مظاهر ذلك:
• حظر شراء طائرات أو قطع غيار من شركات غربية.
• انعدام الصيانة الدورية لدى الشركات المصنعة.
• اعتماد السودان على سوق الطائرات المستعملة أو المنتهية الخدمة من بلدان الاتحاد السوفيتي السابق، مما أدى إلى ارتفاع الحوادث.
وهو ما يتضح بجلاء في حادث رحلة 139 عام 2003، حيث فشل المحرك الأيسر لبوينغ 737 القديمة الصنع أثناء الإقلاع، دون توفر قطع غيار فعّالة، ما أدى إلى مقتل 116 شخصًا من أصل 117.
ثالثًا: الطائرات الروسية وإجراءات صلاحية الطيران — مذكرة 80 نموذجًا
جاء تكرار حوادث طائرات Antonov و Ilyushin، خصوصًا في الفترة من 2005 إلى 2012، ليقلب أولويات سلطة الطيران المدني، مما دفعها إلى إصدار المذكرة التنظيمية رقم 80، والتي تمثل نقطة تحول في إجراءات منح وتجديد شهادة الصلاحية للطيران (C of A).
أبرز ما تناولته المذكرة:
• إلزام المشغلين بتقديم سجل صيانة معتمد ومفصل لأي طائرة روسية/أوكرانية قبل تجديد الصلاحية.
• وقف إصدار شهادات صلاحية مؤقتة بدون فحص فني شامل من وحدة هندسية محايدة.
• منع تسجيل أي طائرة من طراز Antonov تزيد خدمتها على 25 سنة إلا بعد مراجعة شاملة من لجنة عليا مكوّنة من خبراء محليين ودوليين.
• إخضاع الطائرات العسكرية المستخدمة في النقل المدني لتقييم مزدوج يشمل الجوانب الإنشائية وأداء أنظمة الطوارئ.
وقد جاءت هذه الإجراءات بعد تقارير تؤكد أن معظم الطائرات الروسية العاملة بالسودان آنذاك كانت تعمل خارج التوصيات الفنية للمصنّع، وبتراخيص صلاحية مجاملة أو تحت ضغوط تشغيلية.
رابعًا: الحرب السودانية 2023 وما تلاها – فصل جديد من التدهور
مع اندلاع الحرب في أبريل 2023 ، دخل قطاع الطيران في السودان طورًا أشد خطورة. إذ تم تحويل المطارات من منشآت مدنية إلى مناطق اشتباك مسلح، أبرزها مطار الخرطوم الدولي. وقد أدى ذلك إلى:
1. تحطم طائرات مدنية وعسكرية على أرض المطار
• اشتعلت النيران في عدد من الطائرات الجاثمة في ساحة الوقوف، بينها طائرات ركاب تتبع سودانير وشركات خاصة.
• دُمّرت طائرات نقل عسكرية، أبرزها Ilyushin وAntonov، إثر القصف أو بسبب الاستخدام غير الآمن تحت ظروف النزاع.
2. خروج مركز المراقبة الجوية الرئيسي عن الخدمة
ما أدى إلى إغلاق المجال الجوي السوداني بالكامل لأكثر من عامين، مما أثّر على الربط الإقليمي والقاري وأضاع موارد ضخمة كانت تُجنى من مرور الرحلات العابرة.
3. تجميد التدريب الفني وتعليق تراخيص الطيران
لم يعد بالإمكان تأهيل طيارين أو مهندسين أو مراقبين جويين، مما يُهدد الجاهزية البشرية حتى بعد انتهاء النزاع.
خاتمة: نحو رؤية متكاملة للسلامة الجوية بعد الحرب
يمثل سجل حوادث الطيران في السودان مرآةً واضحة للأزمة الهيكلية التي يعاني منها قطاع الطيران، من التقادم في المعدات، وغياب التحديث، إلى تبعات العقوبات والحروب.
وحتى تتم استعادة الثقة والجاهزية، لا بد من:
• فصل الوظيفة التنظيمية عن التشغيلية داخل الهيئة العامة للطيران المدني.
• إعادة بناء الأسطول الجوي بطائرات حديثة مدنية وعسكرية وفق برامج تمويل دولية.
• إعادة تشغيل مطار الخرطوم وفق معايير ICAO، مع تحويله إلى منشأة محمية محايدة .
• إطلاق برنامج وطني للسلامة الجوية بالتعاون مع هيئات الطيران الإقليمية والدولية.
• مراجعة دورية لصلاحية الطيران للطائرات الروسية القديمة بالتنسيق مع سلطات التصديق الخارجي أو عبر اعتماد طرازات جديدة أقل تكلفة تشغيلية وأكثر أمانًا.