
بقلم د. احمد البشري
في أعماق أراضينا تقبع ثروة هائلة، تلمع تحت أشعة الشمس، لكن بريقها يخفي وراءه سردية معقدة من الهدر والفساد وغياب الرؤية. إنه ذهب السودان، الكنز الذي كان يمكن أن يكون طوق نجاة لأزماتنا الاقتصادية المتلاحقة، لكنه تحول إلى مأساة تروي قصة ثروة منهوبة وإدارة عشوائية تفتقر إلى أبسط مقومات الاستراتيجية الوطنية.
فبينما تعاني الخزينة العامة من جفاف مزمن، وتئن تحت وطأة الحاجة إلى العملة الصعبة، نجد أن أحد أهم مصادرها، وهو الذهب، يتسرب من بين أيدينا كالماء. تقارير غير رسمية تتحدث عن مليارات الدولارات ذهبت أدراج الرياح خلال السنوات الماضية، ليس بسبب عدم وجودها، بل بسبب غياب الإرادة الحقيقية والخطة الواضحة لإدارتها.
المشهد الحالي ينقسم إلى قسمين متناقضين: من ناحية، هناك التعدين الأهلي، الذي رغم كونه مصدر رزق للآلاف، إلا أنه يعمل في فضاء غير منظم، مما يجعله عرضة للاستغلال من قبل السماسرة والمافيات، ويحرم الدولة من عوائده الحقيقية. ومن ناحية أخرى، هناك شركات ومتنفذون يتمتعون بامتيازات استخراج، في صفقات غامضة، تذهب بمعظم الأرباح خارج البلاد، تاركة للشعب الفتات.
الحلول ليست عصية على التنفيذ، بل تحتاج إلى إرادة سياسية حازمة. فبدلاً من منح الامتيازات للشركات الخاصة ذات الواجهات الغامضة، لماذا لا يتم منح الامتياز الحصري للشركات الحكومية الوطنية المتخصصة، مثل شركة “ذادنا”؟ لماذا لا نؤسس لـ”هيئة وطنية للذهب” تخضع directly لرئاسة الجمهورية، تكون لها السيادة الكاملة على كل أقطار الذهب، من الاستخراج إلى التسويق إلى التصدير؟
التجارب العالمية أثبتت أن الثروات الطبيعية، خاصة المعدنية منها، هي أمانة قومية لا يجوز التهاون فيها. إن فصلها عن الدولة هو فصل للشعب عن حقه في ثرواته. إن استمرار الوضع على ما هو عليه ليس مجرد إهمال، بل هو خيانة للأمانة وتجاهل لنداءات الاقتصاد المنهار.
لقد حان الوقت لوضع حد لهذه المهزلة. حان الوقت لأن ترفع الدولة شعار “الذهب للشعب” وتتحمل مسؤوليتها الكاملة في إدارة هذه الثروة بمنطق الربح الوطني، لا الربح الفردي. آن الأوان لرؤية واضحة تعيد لهذا الكنز بريقه الحقيقي، بريق ينعكس على حياة كل مواطن سوداني، لا أن يذهب غباره مع الريح.
فإما أن نتحكم نحن في ذهبنا، وإما أن يتحكم هو في مصيرنا، ويبقى حلم الرخاء والاستقرار مجرد سراب يلوح في صحراء آمالنا.