مقالات الرأى

السودان يقلب الطاولة على الرباعية

بقلم  إبراهيم شقلاوي

 

يبدو أن بلادنا قد دخلت مرحلة جديدة من إدارة ألازمة ، مرحلة تتجاوز منطق الاستجابة للمبادرات الخارجية إلى إعادة صياغة علاقاتها الإقليمية والدولية وفق منطق السيادة والندية. فالموقف الرسمي الأخير من “الرباعية” التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات، مثل خطوة محسوبة تمثل تحولًا في تصور الخرطوم لمعنى الوساطة الدولية .

حين صرّح وزير الخارجية محيي الدين سالم بأن السودان سيحتفظ بعلاقاته مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر على أساس المصالح المشتركة والعلاقات الندية، وأن الرباعية ليست جهة شرعية لأنها لم تصدر بقرار من مجلس الأمن ، كان يؤسس لتحوّل سياسي جديد عنوانه : السودان لن يتعامل مع أي إطار جماعي يتجاوز سيادته أو مؤسساته الوطنية.

بهذا الموقف، نزعت الخرطوم احتكار الوساطة الذي حاولت الرباعية فرضه، ونقلت الأزمة من حالة التدويل إلى مسار سوداني إقليميّ متفاهم . فالاعتماد على المبادرات الخارجية يعني قبولًا ضمنيًا بأن الأزمة تُدار من الخارج، وهو ما يتعارض مع السردية الوطنية التي تبنّتها الحكومة منذ اندلاع الحرب باعتبارها معركة ضد تمرّد مسلح يستهدف وجود الدولة .

في الاجتماع الثلاثي الأخير الذي ضم وزير الخارجية السوداني ونظيره المصري ووكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، طُرح ملف المرتزقة الذين تستجلبهم ميليشيا الدعم السريع من دول مختلفة، بعضها من أمريكا اللاتينية وغرب إفريقيا. وأكد الوزير” أن هؤلاء لا قضية لهم سوى القتل والنهب والسحل” ، داعيًا المجتمع الدولي إلى تسمية الأشياء بمسمياتها إن أراد مخاطبة الأزمة بصدق.

هذا الخطاب الصريح يعكس تحوّلًا في الدبلوماسية السودانية نحو ربط المأساة الإنسانية بالمخاطر الإقليمية للتدخلات الأجنبية، بما يمنح السودان تعاطفًا سياسيًا متزايدًا ويعزز شرعيته في مواجهة تمرّد مدعوم خارجيًا.

بالتوازي، برز الدور المصري بوضوح في الملف السوداني. فزيارة وزير الخارجية المصري د. بدر عبد العاطي إلى بورتسودان ولقاؤه بالرئيس البرهان جاءت في توقيت حساس لتؤكد أن القاهرة اختارت موقع الحليف الاستراتيجي لا الوسيط الداعم .

وقد وصف الوزير “وحدة السودان وسلامة أراضيه بأنها قضية وجودية”، مؤكدًا دعم مصر الكامل لمؤسسات الدولة السودانية.

تلك المقاربة الجديدة تضع العلاقات السودانية – المصرية في إطار شراكة تتجاوز الرمزية السياسية إلى تنسيق أمني واستراتيجي فعلي، وربما تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك إذا اقتضى الأمر.

في المقابل، جاء دخول الأمم المتحدة على خط العمل الإنساني تطورًا مهمًا، لكنه مشروط. فالخرطوم قبلت التعاون مع المنظمة الأممية شريطة احترام سيادتها، وعدم تحويل الملف الإنساني إلى بوابة لتدويل الصراع.

وبذلك نجح السودان في تحويل الحضور الأممي من أداة ضغط إلى منصة شراكة عملية، فيما تعاملت الأمم المتحدة بواقعية مع الأمر، معترفة ضمنيًا بمرجعية الدولة السودانية في إدارة الإغاثة والشؤون الإنسانية.

في خضم هذا التحول، برز الفريق أول عبد الفتاح البرهان كمهندس رئيسي لنهج “الشرعية الواقعية” المستندة إلى السيطرة الميدانية واحترام مؤسسات الدولة. وفي تصريحاته الأخيرة، رفض البرهان أي هدنة مفروضة من الخارج، مؤكدًا أن “سقوط الفاشر لن يضعف الدولة، وسيتم استعادتها.

هذا الخطاب الصارم وجّه رسالة واضحة: لن تُقبل أي تسوية خارج مؤسسات الدولة السودانية. كما شكّل انتقاده العلني للموقف الإماراتي واتهامه لأبوظبي بدعم الميليشيا المتمرّدة، في حضور المبعوث الأمريكي مسعد بولس، علامة على ثقة في الخطاب الدبلوماسي السوداني .

ويبدو أن السودان بدأ يستفيد بذكاء من موجة التعاطف الدولي الرسمي والشعبي التي أعقبت دخول ميليشيا الدعم السريع إلى مدينة الفاشر وما ارتكبته من فظائع بحق المدنيين، والتي أدانتها منظمات إنسانية وحكومات، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها.

الخرطوم استثمرت هذا التعاطف لتقوية سرديتها القائلة إن ما يجري ليس تمردًا داخليًا بل “غزو خارجي من مليشيا ومرتزقة”. وزير الخارجية وكافة البعثات الدبلوماسية السودانية بالخارج من خلال اللقاءات الصحفية التي عقدتها وصفت الأحداث بأنها “غزو مباشر”، و أن الحكومة ستواصل مساعيها الجادة لإخراج ما سموه “المليشيا والمرتزقة” من البلاد.

هكذا، يقلب السودان الطاولة على الرباعية ، بإعادة تعريف قواعد اللعبة. فالمعادلة تغيرت: لم تعد واشنطن أو أبوظبي قادرتين على فرض شروطهما السابقة، بعد دخول تركيا وقطر إلى مساحات التأثير، وتنامي التنسيق مع القاهرة والرياض، جعلا من السودان نقطة تقاطع جديدة في الإقليم . وبهذا، تحولت بورسودان إلى مركز ثقل سياسي يدار منه الإيقاع الإقليمي، بعدما كانت تُدار منه فقط العمليات الأمنية والإغاثية والانسانية.

يمكن القول إن هذا الموقف سيفتح ثلاثة مسارات محتملة في المدى القريب. الأول هو تعميق التحالف المصري – السوداني، الذي قد يتطور إلى محور سياسي وأمني منسق يتجاوز الأزمة الراهنة ليشمل قضايا حوض النيل والأمن الإقليمي في البحر الأحمر.

الثاني هو احتمال بروز وساطة موازية من تركيا وقطر تسعى لملء الفراغ بعد تراجع الرباعية، ما سيخلق توازنًا جديدًا بين المحاور الإقليمية المتنافسة. أما المسار الثالث فهو إعادة تدويل الأزمة جزئيًا عبر الأمم المتحدة، إذا ما فشلت الجهود الإقليمية في فرض تهدئة ميدانية، وهو ما قد يعيد الصراع إلى طاولة مجلس الأمن وفقًا لخارطة الطريق السودانية .

بحسب وجه_الحقيقة ، فإن ما يحدث يشير إلى أن السودان لم يعد في موقع الدفاع السياسي ، بل أصبح فاعلًا يملك رؤية وموقفًا وخيارات متعددة. فبين تراجع الرباعية وصعود التحالفات الإقليمية الجديدة، وبين التحدي الميداني والانخراط الإنساني، يكتب السودان فصلاً جديدًا من تاريخه الوطني ، عنوانه الأبرز: أن الشرعية لا تُمنح من الخارج، بل تُنتزع من الداخل وتُفرض بالثبات والقدرة على إعادة تعريف الذات أمام العالم.
دمتم بخير وعافية
الخميس 13 نوفمبر 2025م Shglawi55@gmail.com

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى