
د.عبدالناصر سلم حامد
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق افريقيا والسودان في فوكس
باحث في اداره الازمات ومكافحه الارهاب
يشهد السودان منذ أبريل 2023 تصاعدًا مقلقًا في الهجمات الموجهة ضد المدنيين والبنية التحتية الحيوية، حيث برزت قوات الدعم السريع كطرف رئيسي في نمط متكرر من الانتهاكات التي طالت المستشفيات، الأسواق، المدارس، محطات الكهرباء والمياه، وحتى دور العبادة. هذه الاعتداءات لم تقع عرضًا، بل جاءت ضمن سلوك ممنهج يُظهر نية واضحة في تحويل المرافق المدنية إلى أهداف مباشرة، في تحدٍ صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، وعلى رأسها اتفاقيات جنيف ونظام روما الأساسي.
منذ بداية النزاع، تعرّضت منشآت لا تحمل أي طابع عسكري للهجمات، دون تحذير، ودون وجود أدلة على استخدامها لأغراض قتالية. ينص القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا المادة 52 من البروتوكول الإضافي الأول، على أن الأعيان المدنية محمية، ولا يجوز استهدافها ما لم تشارك بشكل مباشر وفعلي في العمليات الحربية. كما تحظر المادة 54 استهداف الوسائل الضرورية لبقاء السكان المدنيين، كالماء والطاقة، وتُصنف المادة 8 من نظام روما استهداف الممتلكات المدنية عمدًا كجريمة حرب.
تتعدد الأمثلة الميدانية التي تؤكد هذه الانتهاكات، أبرزها قصف مستشفى البشرى في أم درمان في يوليو 2023، ما أدى إلى مقتل خمسة مرضى وإصابة طاقم طبي، دون وجود أي مؤشر على نشاط عسكري في محيطه. وفي يونيو من نفس العام، تم تحويل مدرسة الثورة 21 في الخرطوم إلى مقر عسكري من قبل الدعم السريع، ما عرضها لاحقًا لهجوم دمر أجزاء منها. في 17 سبتمبر، شهد سوق نيالا قصفًا مدفعيًا أثناء الذروة، أسفر عن أكثر من أربعين قتيلًا من المدنيين. هذه الحوادث، إلى جانب استهداف محطة كهرباء كوستي في أكتوبر، وضرب مضخات المياه في الفاشر خلال أغسطس، تكشف عن استراتيجية لا تستهدف فقط الخصم العسكري، بل تُمعن في إنهاك الحياة المدنية وشل الخدمات الأساسية.
لم تقتصر الأدوات المستخدمة على الأسلحة التقليدية. فقد برز استخدام الطائرات المسيّرة (الدرونز) في استهداف الأحياء السكنية والمنشآت المدنية بدقة عالية. وثّقت مصادر ميدانية هجمات بطائرات مسيرة في مناطق مثل حي مايو وأجزاء من نيالا، أطلقت خلالها قذائف موجهة أصابت منازل، أسواقًا، ومراكز إسعاف. ورغم أن هذه التقنية تُوصف بالدقة، فإن استخدامها ضد أهداف مدنية يجعلها خاضعة لنفس المحظورات القانونية، خاصة حين يُثبت أنها انطلقت من مناطق يسيطر عليها الدعم السريع. وتكمن الخطورة في إمكانية تشغيل الدرونز من قبل أفراد ميدانيين دون إشراف قيادي واضح، مما يزيد من فرص الإفلات من المحاسبة.
هذه الأفعال، في تكرارها وتوزعها الجغرافي والزمني، تؤسس لنمط من السلوك العسكري يمكن تصنيفه ضمن سياسة العقاب الجماعي، وهو أمر محظور دوليًا. فحرمان المدنيين من الماء والكهرباء، واستهداف المرافق الصحية والتعليمية، لا يحقق مكاسب عسكرية بقدر ما يعمق الأزمات الإنسانية، ويقوض قدرة المجتمعات على الصمود. وهذا ما يؤكد أن الاستهداف ليس خطأ عملياتيًا، بل وسيلة استراتيجية للسيطرة وإخضاع المدنيين.
القانون الدولي لا يكتفي بإدانة مثل هذه الأفعال، بل يُحمّل القادة المسؤولية عنها. فالمادة 28 من نظام روما الأساسي تُحمّل القادة العسكريين والسياسيين مسؤولية الجرائم التي يرتكبها مرؤوسوهم إذا علموا بها أو تجاهلوها. كما تتيح بعض الدول محاكمة مرتكبي جرائم الحرب استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، حتى إن لم تقع الجرائم على أراضيها أو ضد رعاياها.
ما يجعل هذه الانتهاكات أكثر فداحة هو غياب رد فعل دولي حاسم. رغم كثافة التقارير الحقوقية والشهادات الميدانية، لا تزال آليات المحاسبة الدولية خاملة، والمساءلة غائبة. الصمت في هذه الحالة لا يمثل حيادًا، بل تواطؤًا ضمنيًا يعمق الشعور بأن القانون لا يُطبّق إلا في نزاعات مختارة بعناية سياسية.
ما يحدث في السودان لا يهدد فقط أرواح المدنيين، بل يقوّض واحدة من ركائز القانون الدولي الإنساني: مبدأ الحماية. وإن لم يتم تفعيل آليات التحقيق والمحاسبة، سواء عبر المحكمة الجنائية الدولية أو لجان تقصي الحقائق، فإن الرسالة التي تُبعث إلى العالم هي أن استهداف المستشفيات والمدارس يمكن أن يمرّ دون عقاب، وأن حماية المدنيين باتت استثناءً لا قاعدة. لهذا، فإن المحاسبة في هذه الحالة ليست فقط ضرورة قانونية، بل واجب أخلاقي عالمي.