مقالات الرأى

للحقيقة لسان – رحمة عبدالمنعم – السودانيات في الحرب.. (كعب عالي)

الخرطوم : نبض الوطن
لم تكن الأيام تُعد بالتقاويم، بل بالصرخات المكتومة خلف جدران الخيام،وبالخطى المرتعشة لامرأة تُقتاد من يدها إلى مصيرٍ لا تعرفه، فحين يُسحق الضمير الإنساني تحت بطش ميليشيا الدعم السريع ، يصبح الجسد الحي أرضاً مستباحة، والمخيمات التي وُضعت لحماية النازحين من نيران الحرب، تتحول إلى أفخاخٍ للذل والموت البطيء.

من معسكر زمزم للنازحين بدارفور، ارتفعت حكايات لا تشبه الحكايات، لا خيال فيها، بل واقع أكثر فظاعة من الكوابيس، (64) وجهًا نسائياً، بين طفلة لا تجيد بعد كتابة اسمها، وفتاة بالكاد أدركت جسدها، قد اختفين في ليلة واحدة على يد مليشيا الدعم السريع. ليس في الحرب ما يُدهش بعد، لكن أن يُقايض الجسد بالمال، وأن يُطلب من ذوي المخطوفات دفع فدية، فذاك تجاوز للفظائع، ونزول إلى قاعٍ لا قرار له.

أحد الشهود قال إن ست نساء أُحرِقن أحياء داخل منزلٍهن بمخيم زمزم ، ولم تُرفع على رؤوس البيوت راية حداد، لأن الموت أصبح رفيقاً دائماً، لا يحتاج إلى إعلان. وفي الطريق إلى طويلة، لم تسلم (30) امرأة من الضرب والتحرش والتفتيش المهين من عناصر الجنجويد، لم تُراعَ حرمة، ولم تُستثنَ طفلة ولا عجوز. وفي قلب المأساة، رجلان فقدا أعضاءهما التناسلية، فمات أحدهما، ونجا الآخر ليحمل عاراً لم يتسبب فيه.

في مكانٍ آخر، امرأة في الخامسة والثمانين، حين جاء دورها لتتكلم، خفضت رأسها، وقالت إن اغتصابها سلبها كرامتها كجدة، رفضت أي دعم نفسي، لأن العالم الذي يُنتهك فيه المسنون لم يترك لها مكاناً تعود إليه.

وأمس الثلاثاء في منتدى الحرية بأوسلو(النرويج)، كانت مديرة وحدة مكافحة العنف ضد المرأة، سُليمى إسحق، لا تحمل سلاحاً، بل كلمات، وقفت هناك، وقالت للعالم ما خجلت عنه النشرات الرسمية: “هذه ليست حرب جنرالين، بل خطة لإعادة تشكيل البلاد على حساب نسائنا”،تحدثت عن حالات العنف الجنسي الموثق، عن فتيات حوامل في مناطق لا تملك حتى قطعة شاش طبي، عن طفلة حُرّرت وهي تحمل جنينها، وتكاد تخسر طفولتها كلها.

لكن رغم كل ذلك، لم تتكلم سليمى بلغة منكسرة. قالت شيئاً غريباً، شيئًا يشبه المعجزات: “السودانيات لا يزلن يرتدين الثوب والكعب العالي رغم الألم”، ولم تكن تقصد زينة الجسد، بل كبرياء الروح، فالمشي بالكعب العالي فوق رماد المعسكرات، إعلان حياة، وإصرار أن الجسد الذي أُهين ما زال قادرًاً على الوقوف، لا للاستعراض، بل للتحدي.

هي ليست دعوة للقلق، كما يهوى العالم أن يقول، بل صرخة تقول: “سمّوا الأشياء بمسمياتها”، لا تسألوا عن عدد القتلى فقط، بل عن عدد من فقدوا حقهم في الحياة الكريمة وهم أحياء، عن من نُهبت أرواحهم قبل أن تُسرق ممتلكاتهم.

في مخيم زمزم ومناطق أخرى، نساء لم يعدن ينتظرن عدالة عاجلة، بل أقل حقوق البقاء. لكنهن، رغم كل شيء، لم يُسلمن شرف الصمود. يلبسن الثوب، وينتعلن الكعب العالي، ويمشين فوق جمرٍ لا تراه كاميرات العالم.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى