مقالات الرأى

لؤي ابراهيم عثمان يكتب : (ماغما) المعارف و (لافا) الإبداع

في أعماق الأرض تتكون ( الماغما )، كتلة منصهرة من المعادن و الغازات ، تتفاعل و تغلي في صمت ، حاملة في جوفها طاقة عظيمة . لا يدرك كثيرون قوتها الكامنة إلا حين تندفع على هيئة ( لافا ) ، تشق طريقها إلى سطح الأرض و مشكّلة تضاريس جديدة . هذه الظاهرة الجيولوجية تشكل تشبيهاً بليغاً لمسيرة العقل البشري في رحلته من تراكم المعارف إلى تدفق الإبداع .
المعرفة بذاتها مادة خام أولية . نحصل عليها من الاطلاع ، المشاهدة ، ، التجارب و من الاسئلة التي نطرحها . فتختزن المعلومات في أعماق وعينا . تماماً كما تتراكم الماغما في غرفها الجوفية . محتقنة ، كثيفة و غنية بالمكونات . لكنها وحدها لا تكفي . فالمعرفة دون حركة ، و دون إثارة للأسئلة أو إعادة تركيب ، تظل ساكنة ، جافة و قد تصبح عبئاً إن لم تستخدم .
أدرك ابن سينا أن المعرفة في ذاتها ليست غاية ، بل وسيلة فلم يقف عند الحفظ ، بل مارس التجريب و الربط بين الفلسفة و الطب والفلك فسبق عصره في رؤى علمية لا تزال مدهشة حتى اليوم . ومن أقواله : ” إن من لم يُعط العلم أوله لم يُعط آخره ” .
كما أن حركة الصفائح الأرضية أو ارتفاع الحرارة و الضغط تطلق الماغما . فإن المعارف تصبح إبداعاً ، لحظة التساؤل الصادق ، لحظة الشك البناء ، حين نبدأ بربط ما تعلمناه بحاجات الواقع و حين نفكك المألوف لنعيد بناءه بشكل جديد . عندها تبدأ اللافا الخاصة بنا في التدفق .
الإبداع لا يحدث من فراغ ، بل هو خروج معرفي مدروس . حين سُئل إسحاق نيوتن كيف توصل إلى قوانين الجاذبية ، أجاب ” بالتفكير الدائم ” .
إننا لا نحتاج فقط إلى المعرفة ، بل إلى القدرة على تحويلها إلى تطبيقات و ممارسات . فالعلم الذي يكرر المحتوى لا يختلف عن بركان جامد خامد . أما الذي يشعل عقول الناس بالتساؤلات و التجريب فهو بركان حي ، يطلق شرارات الإبداع .فالذي لا يكتفي بالحفظ فقط بل يبدع مشروعاً أو يكتب فكرة أو يصمم حلاً مبتكراً لمشكلة قديمة . هو من حول ماغما معرفته إلى لافا تحدث فرقاً .
يقول إرك كاندل : ” الإبداع هو نتاج دماغ متمرس في إدراك الأنماط و إعادة تركيبها بشكل جديد ” . أي أن الإبداع هو ناتج تفاعل معرفي داخلي و ليس مجرد لحظة إلهام مفاجئة .
سواء في العلوم أو أي ضرب من فنون الحياة ، يبدأ طريق التميز من عمق الماغما . من التمكن في الفهم ، ثم الجرأة على الخروج من المألوف .
الإبداع ليس قفزاً فوق المعرفة ، بل انبثاقاً منها . فالعلماء و المبدعون يتغذون من نفس المصدر ، لكنهم يحولون المادة إلى أشكال مختلفة .
لا يكفي أن نكون خزانات للمعرفة ، بل علينا أن نصبح براكين تفكير تطلق ما اختزنته لتبني و تبتكر . فالفرق بين العارف و المبدع ، هو أن الأول يحفظ ، و الثاني يحوّل المعرفة إلى طاقة خلّاقة و مبدعة .
دعوة حياة لكل فرد . أعد النظر . فكر . أسأل ، لماذا و كيف . لا تكتفِ بأن تكون قارئاً أو ناقلاً فقط و كن متفجراً تطلق من جوفك ما ينير و يدهش و يغير . فالماغما الحبيسة لا تثمر و حين تتفجر مدروسةً فإنها تخلق تضاريس جديدة للعالم .

أ . لؤي ابراهيم عثمان

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى