مقالات الرأى

للحقيقة لسان – رحمة عبدالمنعم – «فاشر السلطان»..الدم والنار والحصار

 

لم تعد الفاشر مجرّد مدينة على خارطة الحرب، بل صارت عنواناً للفصل الذي يكتبه التاريخ بمداد من دماء الأبطال. في المعركة رقم 227، كانت«فاشر السلطان شنب الأسد» على موعد جديد مع الامتحان، امتحان الحصار والجوع والمرض، لكن هذه المرة على هيئة هجوم كاسح من مليشيا الدعم السريع… انتهى كما انتهت كل محاولاتهم السابقة: إلى هزيمة مُذلّة.

الصباح كان يتنفس ببطء حين دوّت المدافع البعيدة، ومع أول خيوط الضوء، ظهرت قوافل المليشيا على أكثر من محور، عربات قتالية تتقدم، غبار كثيف يتصاعد، ووجوه متجهّمة لقادة كبار من عيال الماهرية، وخلفهم صفوف تضم أطفالاً ساقهم حظهم العاثر إلى ساحة لا ترحم.

لكن المدينة لم تكن غافلة،على أسوارها كان أبطال الجيش، والقوى المشتركة، والمستنفرون، مصطفّين كما لو أنهم امتداد لجدار حجري عتيق ،وجوههم أنهكها الحصار، لكن عيونهم تتقد بوميض العزيمة، كان كل رجل يعرف أن مهمته ليست الدفاع عن موقع، بل الدفاع عن معنى… عن فكرة أن الفاشر لا تسقط.

بدأت المليشيا هجومها بقصف عشوائي، ثم دفعت بعرباتها في محاولة لاختراق الدفاعات، لكن تكتيكات المدافعين – التي وصفها القيادي في حركة العدل والمساواة عبد العزيز عشر قبل أشهر بأنها “ستدرس في فنون الحرب” – كانت في انتظارهم. كل خطوة للعدو كانت تورطه أكثر، حتى بدا وكأنه يندفع طواعية إلى فخّ محكم.

الانفجارات هزّت الأرض، ودخان أسود ارتفع من 16 سيارة قتالية تحوّلت إلى حطام في الميدان، كان أبطال الجيش يردّون الرصاص بالرصاص، والنيران بالنيران، حتى تهاوى أكثر من 254 مقاتلًا من المليشيا، بينهم كبار قادتهم امام بوابات المدينة،وفي لحظة بدت كأنها مشهد سينمائي، استولى المقاتلون على 34 سيارة أخرى، بينها مصفحات و”صرصرين” بكامل عتادهما.

الهجوم الذي بدأ عند الصباح، انتهى قبل أن تبلغ الشمس منتصف السماء، من تبقى من المليشيا فرّوا تاركين عرباتهم خلفهم، يجرّون أذيال الخيبة، ويخلفون وراءهم صمتاً ثقيلاً ورائحة هزيمة واضحة.

وبرغم هدير المدافع، لم تنطفئ إنسانية الفاشر في خلفية المشهد، كانت نساء المدينة يوزعن الماء والطعام على المقاتلين في الخطوط الخلفية، وأصوات الأطفال تردد الأناشيد التي حفظوها من أيام المدارس قبل أن تغلقها الحرب، المدينة كانت تتحرك كوحدة واحدة، من الشيخ الذي يرفع الدعاء في المسجد، إلى الشاب الذي يحمل صندوق الذخيرة إلى خط النار، هذا التلاحم الشعبي كان جزءاً من سرّ النصر، وسرّ بقاء الفاشر على قيد الحياة رغم كل ما يحيط بها من حصار.

الهجوم رقم 227 لم يكن مجرد رقم في سجل المعارك، بل صار علامة فارقة، لأنه أثبت أن المليشيا مهما جمعت من الرجال والسلاح، فإنها لا تستطيع كسر إرادة مدينة تعرف تاريخها وتعيش على أمجادها،«فاشر السلطان شنب الأسد» لم تنتصر بالسلاح وحده، بل بالإيمان العميق بأن الأرض التي ارتوت بدماء الأجداد، لن يسلمها الأبناء إلا إلى الله، بعد أن تصير مقبرة للغزاة.

لكن ما يجعل هذا النصر أكثر بريقاً، ليس فقط حجم الخسائر التي مُني بها العدو، بل أن الفاشر – برغم الجوع والحصار والمرض – ما زالت تصرّ على البقاء واقفة، مدينة تعلّم الغزاة درساً قاسياً في كل محاولة، وتؤدب الجنجويد، وترسلهم إلى «السماء ذات البروج».

اليوم، لا أحد يملك أن يتجاهل أن الفاشر أصبحت مدرسة في الصمود، وأن أبطالها يكتبون ملحمة ستظل الأجيال ترويها: كيف قاومت المدينة، وكيف انتصرت للمرة الـ 227، وكيف حوّلت محاولات غزوها إلى فصول من المجد، وإلى أسطورة تقول: ما دام في الأرض أبناء كهؤلاء… فلن تنكسر.

اضغط هنا للانضمام الى مجموعاتنا في واتساب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى