
بقلم دكتور : محمد سليمان عبدالله ـــ أستاذ جامعي ومحلل سياسي وإستراتيجي
الخلاصة:
ما يجري في الجنوب يحتاج لمنهج حلول غير تقليدية، فالراجح هو إندلاع حرب تهدد تماسك الدولة ووحدة اراضيها وفقا للسيناريوهات السيئة المتوقعة.
واضح ان الايقاد، الاتحاد الافريقي والامم المتحدة عاجزون عن فعل شي على الاقل حتى الان، وكذلك د/ رياك مشار خاصة بعد اعتقاله ومنع الاخرين من مقابلته.
تواجه حكومة الجنوب اليوم، كنتيجة لما اتخذ من قرارات، معارضة سياسية قوية من كافة أبناء الجنوب في ان واحد.
الاوضاع في جوبا الان مهيئة لاعمال شغب ومظاهرات وهنالك موشرات لذلك.
مازال الامر بيد الرئيس سلفاكير، ويحتاج للشجاعة الكافية للخروج من مربع الازمة.
المقدمة:
إنحدرت الاوضاع بألجنوب الى مربع الازمة بصورة متسارعة، وإن لم تكن مفاجئة فإن الكثير من أحداثها لم تكن متوقعة، وكان سقوط الناصر في يد الجيش الابيض هو ما نبه المراقبين على خطورة الاوضاع بجنوب السودان خاصة بعد تدخل القوات اليوغندية للدفاع عن نظام الرئيس سلفاكير. سبقت احداث الناصر قرارات رئاسية شكلت خروقات واضحة لإتفاقية السلام المنشط الموقع في الخرطوم في العام 2018م، وأعقب ذلك اجراءات وقرارات حكرمية أجهزت تماما على اتفاقية السلام المنشط.
إتهمت حكومة الجنوب الحركة الشعبية بالمعارضة التي يقودها د/ رياك مشار النائب الاول للرئيس بانها وراء هذه الاحداث، واجتهد اعلامها في اثبات هذه التهمة. لكل ذلك دخل الجنوب في حالة احتقان سياسي وامني كبيرين واصبحت نذر المواجهة بين الحكومة وأكثر من طرف معارض وربما مسلح تحتاج فقط الى من ينزع فتيل الاشتعال داخل جوبا! فما هي اسباب ذلك؟ و ما هي مآلاته و سيناريوهاته؟ و ما اثره؟ هذا ما نرجو تناوله في هذا العجالة.
أسباب الصراع:
السبب الجوهري لهذا النزاع هو رغبة الرئيس سلفاكير في تعيين السيد/ بول ميل نائبا له في موقع السيد/ جيمس واني ايقا وهو ما حدث وكان من الممكن أن يتم دون ربطه باتفاق السلام المنشط، لكن ذلك الامر اقتضى بعض الاجراءات التي شرعت فيها حكومة الجنوب منذ فترة ولم تنتهي بعد، و المتوقع هو اجراء بعد التعديلات داخل الحركة الشعبية لضمان ان يحل السيد/ بول ميل موقع الرئيس سلفاكير عند خلوه، وهي اجراءات تواجهه عقبات كبيرة داخل الحركة الشعبية الام ليست محل بحثنا الحالي.
أحداث الناصر تعتبر مظهرا للصراع وليس سببا له ولكنها القشة التي قصمت ظهر البعير، وتعود احداث الناصر بالاساس الى حالة التضييق والمحاصرة التي تمارسها حكومة الجنوب ضد د/ رياك مشار الذي اصبح عاجزا عن تقديم اي شي لانصاره بصفة عامة وأهله النوير على وجه الخصوص، وهي حالة إستمرت منذ توقيع اتفاقية السلام المنشط وتزداد بوتيرة تتناسب مع حالة الفشل في تنفيذ الاتفاقية، وترجع بالاساس لقرارات إتخذتها منظمة الايقاد التي اشرفت على توقيع اتفاق السلام المنشط . هذا الواقع هو ما دفع نوير الناصر واللاو نوير للخروج عليه وعلى حكومة الجنوب، وهما يمثلان 50% من قبيلة النوير، لذلك فان احداث الناصر التي قادها الجيش الابيض من اللاونوير والجيكانق يصعب الوصول الى تسوية بشانها في المدى القريب.
ما يربط احداث الناصر بتعيين بول ميل هو ان حكومة جنوب السودان ترتب للخروج من اتفاقية السلام المنشط وتسجيل اسباب ذلك على الحركة الشعبية بالمعارضة، كما تخطط في ذات الوقت ومنذ فترة ان يحل بول ميل مكان سلفاكير الذي تشير المعلومات المتداولة بانه لم يعد قادرا لمباشرة مهام الحكم. اما التخطيط للتنصل عن اتفاقية السلام المنشط فيعود لصعوبات موضوعية في تنفيذ الاتفاقية كان من الاوفق حلها بحوار خارج صندوق الاتفاقية، وهو حوار لم يفت أوانه بعد، لكن ظاهرة القفذ من مركب الاتفاقية دون مشورة الاطراف هو ما يدخل الجنوب في دوامة صراع يصعب الخروج منها . أما التوجه لاحلال بول ميل محل الرئيس سلفاكير فقد اتخذت الحكومة في اطاره عدد من القرارات اهمها الاتي:
ابعاد كل من الجنرال/ أكور جوك جوك، المستشار/ توت قلواك ومدير هيئة الاستخبارات العسكرية بعد توجيه عدد من التهم في حق بعضهم، علماً بانهم يشكلون فريق ظل يعمل بتجانس منذ توقيع الاتفاقية.
ابعاد كل من جيمس واني ايقا وحسين عبد الباقي من مناصبهم وتعيين بول ميل نفسه في موقع جيمس واني ايقا وجوزفينا جوزف لاقو في موقع حسين عبد الباقي، واقالة حسين عبد الباقي كانت ضرورية لاحداث بعض التوزان على مستوى رئاسة الجمهورية وفتح الطريق لبول ميل الذي هو أيضاً من شمال بحر الغزال.
أدت هذه التعديلات اعلاه الى جملة من الازمات منها احداث الهجوم على منزل الفريق اكول كور بعد اعتقاله وإلى توتر كبير على الساحة الجنوبية، لكن الاخطر من ذلك ان بول ميل بعد تعيينه كان سببا في اقالة عدد من الشخصيات المنتمية الى رياك مشار من مناصبهم الدستورية و لذلك اصبح الطريق الى احداث الناصر مفتوحا، فحدثت كتداعيات لكل ذلك.
ما بعد سقوط الناصر:
رغم سقوط الناصر لم تسر الاحداث الى الافضل، حيث اتخذت الحكومة جملة من الاجراءات والقرارات التي ضاعفت من التوتر الموجود أصلا، و من ذلك:
اقالة والي ولاية جونقلي المعيين حديثا وتعيين د/ ريك قاي كوك بدلا عنه، والوالي المقال من مجموعة الاحزاب السياسية (سوا) الموقعة على اتفاق السلام المنشط.
اقالة والي اعالي النيل التابع لرياك مشار وتعيين الفريق جون كونق بدلا عنه، وجون كونق هذا من المنشقين من د/ رياك مشار.
دخول القوات اليوغندية الى الجنوب واتخاذها قواعد عسكرة خارج جوبا، حيث قامت بقصف القوات المتمردة في الناصر بالطيران.
التعبئة لتحرير الناصر، ويشارك في هذه الحملة كل من مليشيات الشلك بقيادة جيمس اولونج ومليشيات من الدينكا من شمال اعالي النيل، علما بان جيمس اولونج من المنشقين عن رياك مشار.
نخلص من ذلك إلي ان حكومة جنوب السودان ضربت باتفاقية السلام المنشط عرض الحائط، كما ان القيود المفروضة على د/ رياك مشار قد تضاعفت وانتهت باقالته واعتقاله، وان نذر الحرب اصبحت على الابواب.
السيناريوهات المتوقعة:
السيناريو الاول:
اندلاع حرب بين حكومة الجنوب وقبيلة النوير تنتشر في كل ولاية اعالي النيل الكبرى، حيث تعمل الحكومة على التعبئة لحرب المتمردين بالناصر، وقد بدات الحرب فعلا.
ملامح تحقق هذا السيناريو تتمثل في الاتي:
لا تملك الحكومة خيارا غير محاربة المتمردين بالناصر.
بدأت الحرب فعلا ويصعب حسمها اذا دخل الخريف.
تماسك جبهة النوير بالناصر، وفي السابق كانوا يتحاربون في مثل هذه الاوقات.
في إطار التعبئة، اصبح قادة ولايات اعالي النيل الكبرى الثلاثة من ابناء النوير مما يؤكد التخطيط للقضاء على الحركة الشعبية بالمعارضة الاكثر تمثيلا لابناء النوير.
السند الخارجي للنوير من ابناء النوير الناشطين.
تداعيات هذا السيناريو تتمثل في الاتي:
انتقال الحرب لكل مناطق النوير.
استحالة تحقيق السلام في ظل وجود حكومة الجنوب الحالية.
ربما ادت الى انفصال اقليم اعالي النيل الكبرى عن جنوب السودان.
السيناريو الثاني:
يتمثل هذا السيناريو في اندلاع حرب شاملة في جنوب السودان تندلع شرارتها من جوبا.
ملامح تحقق هذا السينارو تتمثل في الاتي:
بالاضافة لاضطراب الاوضاع في اقليم اعالي النيل وتعطيل تنفيذ اتفاقية السلام المنشط، هنالك حركة تمرد ظهرت في ولاية واراب وتمرد اخر في ولاية غرب الاستوائية.
وجود حركات متمردة لها موقف معارض لما تقوم به حكومة الجنوب، وقد بدأت تنشط عسكرياً على مستوي شرق الاستوائية.
توقع اضطرابات وتمردات داخل الجيش الشعبي بسبب الاوضاع المعيشية وعدم صرفهم لمرتباتهم لفترة طويلة.
وجود حالة توتر كبير بجوبا وحالة إستياء شعبية بسبب الاوضاع الاقتصادية ورفض الجنوبيون لتدخل القوات اليوغندية مع ضعف اداء جهاز الامن بعد ابعاد الفريق اكول كور.
تداعيات هذا السيناريو تتمثل في الاتي:
فقدان السلطة المركزية بتفكك الجيش الشعبي وتحول دولة جنوب السودان الى دولة فاشلة.
خروج الجميع من جوبا فرارا بجلدهم.
اثر الاوضاع على السودان:
لا خلاف في أن إندلاع حرب بالجنوب يزيد من حجم المشكلات والتحديات التي تعاني منها منظمة الايقاد، كما إن إقترب القوات اليوغندية من الحدود السودانية مع وجود التامر الاماراتي المعروف والمشهود يعد خطورة كبيرة على الاوضاع بالسودان والاقليم. إن اعادة التوتر للعلاقة بين جنوب السودان والسودان، توقع موجات لجوء للسودان، وربما، وقف تصدير البترول تشكل مههدات حقيقية للدولتين وتحديات لدول الاقليم.
التوصيات:
أجادل أن إتفاق السلام المنشط واتفاقيات اخرى مماثلة وقعت على مستوى السودان (نماذج نيفاشا) هي اتفاقيات غير قابلة للتنفيذ لاسباب يطول بحثها، أقول ذلك بصفتي من المشاركين في اتفاق السلام المنشط واتفاقات مماثلة سابقة له. إن الحل يكمن خارج هذه الاتفاقيات ـــ خارج الصندوق ـــ ورغم ذلك لابد من التدخل السريع لمنظمة الايقاد لإطلاق سراح د/ رياك مشار كما فعلت في السابق ما مهد لتوقيع اتفاق السلام المنشط نفسه. هذا التحرير ضرورى لقيادة حوار بناء يتفادى عيوب الماضي ويخرج جنوب السودان من حالة الاحتقان القائم الان ويجنبه شبح الحرب اللعينة، وذلك قبل فوات الاوان.
والله الموفق
د/ محمد سليمان عبدالله ـــ أستاذ جامعي ومحلل سياسي وإستراتيجي
abuazain77@gmail.com
15 April 2025






